كما في الأساطير وفي قصص التراث، يخرج الملك متخفياً ليجول في ظلمة الليل ثم يدخل كوخاً، وهناك يلتقي أحد رعاياه على غير موعد، فيطعمه ويأويه لليلة أو أكثر. عادة يحمل ذلك اللقاء في داخله احتمالات لخلخلة علاقات السلطة، ولو مؤقتاً. تتساوى الرؤوس لوهلة ويتجرد السلطان من هيبته، إما اختياراً لأن الملك ينكر نفسه عمداً لاستطلاع أحوال العباد من دون أن يعرفوا هويته الحقيقية، أو جبراً لأنه يهرب من وجه عدو يطلب رأسه. هناك لحظة من الاستنارة تبرق، يرى الملك العالم الحقيقي كما هو ومن قرب، والرعية تعاين السلطة في هشاشتها، كيف هي مصنوعة من لحم ودم مثلهم.
على المنوال نفسه، يتصدى الفيلم الوثائقي "إخفاء صدام حسين"(2023) للمخرج العراقي الكردي، هلكوت مصطفى، لمهمة استعراض فترة اختباء الرئيس العراقي الراحل، بعيداً من عيون القوات الأميركية، وذلك قبل العثور عليه في كانون الأول/ديسمبر2003، في حفرة داخل مزرعة تبعد 9 أميال عن مسقط رأسه، تكريت. بعد عقدين من تلك الأحداث التي غيرت وجه العراق والمنطقة، يجلس المزارع، علاء نامق، أمام الكاميرا، ويروى تفاصيل 235 يوماً قدم خلالها المأوى للسيد الرئيس، كما يتحدث عنه بتوقير طوال الفيلم.
لماذا وقع الاختيار على نامق ليقوم بالمهمة؟ لا يمنحنا الفيلم إجابة واضحة، أو للدقة فإنه يمنحنا إجابتين غير متعارضتين، لكنهما معاً لا يقدمان رواية مقنِعة. شخص جاء في الحلم وأخبر صدام أن يتوجه إلى تلك المنطقة. ولاحقاً يسأل صدام، مَن في أخوانكم صياد؟ ويكون نامق هو الشخص المناسب، باعتبار الصيادين هم الأفضل في التخفي.
بوجه تشع قسماته وتعبيراته بخليط من عزة النفس والتواضع، وبصوت ممتلئة نبرته بالنبل والحميمية، يجلس نامق ممسكاً بسبحته وهو يروي وحده للكاميرا، وكأنه في جلسة اعتراف طويل أو مثل راوٍ يقص ملحمته دفعة واحدة أمام جمهور خفي. ثمة ما يجبرنا على تصديق ما يقوله بلا ذرة شك، ويدفع للاستغراق في سرده بكثير من التعاطف والشفقة.
يكتفي صنّاع الفيلم بنامق كشاهد وحيد، بلا حاجة لمسألة شهادته أو جلب شهادات أخرى. إلى جانب المقابلة المطولة معه بكاميرا ثابتة، تتداخل مقاطع أرشيفية مع مشاهد دراما-وثائقية يقوم فيها ممثلون بتجسيد الأحداث التي يرويها، ما يمنحها طبقة إضافية من المصداقية. نامق الذي لم يكن يشاهد سوى الإعلام الحكومي، يعرف فقط أن رئيسه رجل ممتاز، لاحقاً سيسمع عن المذابح التي ارتكبها ضد مواطنيه. الرهبة التي يشعر بها في البداية تجاه ضيفه تتحول مع الوقت إلى ألفة وسرعان ما تنقلب مودة. يصبح نامق طباخ صدام ومصفف شعره وسائقه وحارسه الشخصي وكل شيء بالنسبة إليه.
الضيف المنغلق على نفسه لا يشارك مع مضيفه خططه ولا ما ينويه، يكتفي فقط بمصارحته أنه قنبلة حية، ولو انفجرت ستقتله هو وأسرته. يدرك نامق مقدار الخطر، ويقضى لياليه يفكر في ما سيحدث له ولأولاده الأربعة لو اكتشفه الأميركيون. لكنه مستعد للتضحية، ببساطة لأن تلك تقاليد الضيافة التي يعرفها، لا يسأل المضيف ضيفه عن شيء ويفديه بنفسه وبأهل بيته. ولهذا لا يعير مكافأة الـ25 مليون دولار التي وضعها الأميركيون مقابل رأس صدام، أي أهتمام، لكنه يعترف بأنه فكر أنه لو عاد ضيفه للحكم سيصير هو ذراعه اليمنى.
تنكشف هشاشة صدام أمامنا، كبشر يخاف ويتألم يكتئب، وبالأخص حين يصله نبأ مقتل ابنيه عدي وقصي. وفي هذا، يبدو جديراً بالشفقة بل وربما بالتعاطف. فقط لأننا نراه بعيني نامق، الذي يرفض وصف الآخرين له بالديكتاتور، فهو بالنسبة إليه حتى اليوم صديق. لا استنارة في هذه القصة، يصل الملك إلى حبل المشنقة من دون لحظة من ندم أو محاسبة للذات، أما الفلاح فلا تتبدد من أمام عينيه هالة السلطة أبداً. (*) يعرض الفيلم حالياً في قاعات السينما في لندن