لم يكن مشهد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أمام الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعيدًا، من الناحية المعنويّة، عن مشهد الملك الأردني عبد الله الثاني بن حسين، في الغرفة نفسها وأمام الرئيس الأميركي المتنمّر نفسه. ولن تكون غزّة، أو حتّى لبنان، بعيدة عن مشهد أوكرانيا، في رؤية الإدارة الأميركيّة الحاليّة.

رؤية تجاريّة للعالم
في نظرة المستثمر العقاري الكبير، الذي بات رئيسًا للمرّة الثانية للولايات المتحدة الأميركيّة، غزّة مكانٌ رائع لمشروع سياحي ضخم. وفي نظرة صديقه صانع السيّارات الكهربائيّة، إلون ماسك، أوكرانيا مخزن ضخم للمعادن النادرة، التي تتسابق الولايات المتحدة مع الصين على الاستحواذ عليها، في إطار الصراع على صناعات المستقبل. ماذا يمنع جعل غزّة مشروعًا عقاريًا يقود قاطرة السلام في الشرق الأوسط؟ وماذا يمنع أن تكون أوكرانيا ضحيّة تقسيم متقن للنفوذ، بين إدارة ترامب والكرملين؟
ثمّة انقلابٌ أميركيّ كبير يشهده العالم على كل المفاهيم التي أفرزتها الحرب العالميّة الثانيّة. تودّع الولايات المتحدة فكرة التمسّك الشديد بالحدود القائمة بين الدول القوميّة، إلّا في إطار منح الشعوب الحق بالاستقلال أو تقرير المصير، ومنع العودة إلى زمن الحدود الإمبراطوريّة المتحرّكة. وتقلّل من أهميّة الغطاء الأمني الذي وفّرته للعالم الديمقراطي والليبرالي، تارةً بحلف الناتو في أوروبا، وطورًا بالشراكات العسكريّة في جنوب وشرق آسيا. هو حلف الناتو بالتحديد الذي يحتقره ترامب، وحاول تهشيمه في ولايته السابقة بالخروج منه، ويحاول تهشيمه بالتفرّد في مفاوضة بوتين على مصالح بلاده في أوكرانيا.
لا يريد ترامب أن يكون ضامنًا لشيء. ولا أن تكون بلاده ضامنةً لشيء. يريد أن يكون، مثله مثل بوتين أو شي جين بينغ أو كيم جونغ أون، إمبراطورًا يصارع على المدى الحيوي لبلاده. في أوكرانيا، تتخطّى هذه المقاربة البراغماتيّة السياسيّة التي لطالما طبعت السياسة الخارجيّة الأميركيّة، لتصل إلى حد تخطّي مفاهيم سياسيّة أساسيّة حكمت هذه السياسة لعقود. وفي غزّة، لا تقف المسألة عند حدود الانحياز الأميركي المعتاد لإسرائيل، لتصل إلى حد تجاهل مسلّمات كانت ترعى العلاقة الأميركيّة بالحلفاء العرب.

عالم متعدد الأقطاب؟
يحلو للبعض تسمية المشهد بالعالم المتعدّد الأقطاب، وفق الشعارات المعهودة والمعروفة. لكنّه ليس تعددًا في الأقطاب، بقدر ما هو تعددًا في سلطويّات تحكمها رؤية مارقة للعالم والدول والشعوب. وشعبويّة اليمين المتطرّف الأميركي، تلاقيه شعبويّات مماثلة في أوروبا، تسأل بجديّة عن مغزى تحدّي بوتين أو شي جين بينغ، من أجل قيم أو حسابات "أمن قومي" لا تعني الكثير بالنسبة لهذه الإيديولوجيّات. وما معنى توتير العلاقة مع نتنياهو، من أجل مسائل مثل حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، أو الحد من هول الإبادة، أو أي مسألة أخلاقيّة أخرى؟
عبثًا يحاول زيلينسكي شرح المسألة لترامب، حين يخبره أن ابتلاع أوكرانيا سيفتح شهيّة بوتين للمزيد في أوروبا. قد يسأل ترامب نفسه، ماذا سيكون على المحك هنا؟ أهي الديمقراطيّة الليبراليّة، ومفاهيم الدول القوميّة ذات السيادة، التي تهددها شهيّة إمبراطور الكرملين؟ أعليه أن يخشى مثلًا المزيد من نماذج مثل بيلاروسيا، التي يقودها سلطويّ يدور في فلك بوتين؟ أعليه أن يخشى على القيم الغربيّة التي لاذت بمظلّة بلادة العسكريّة لعقود؟ هذه القيم هي تحديدًا ما يحتقرها يمين شعبوي من هذا النوع.

الديمقراطية المُعابة
في الغرب، ثمّة من يتحدّث عن مخاطر "الديمقراطيّة المُعابة"، التي يمكن أن تجعل دولًا مثل الولايات المتحدة مشوبة بأنماط حكم شبه سلطويّة، تمامًا كدول أخرى مثل المجر. ثمّة تقاليد ديمقراطيّة راسخة في الولايات المتحدة، وثمّة ما يمكن أن يمنع ذلك بالتأكيد. لكن أيضًا، ثمّة فريق حاكم يحتقر قيم مألوفة مثل احترام دولة القانون أو المؤسّسات الضامنة لليبراليّة النظام السياسيّة. وهذا الفريق، لا يُمسك فقط بمقاليد السلطة التنفيذيّة، بل يمسك كذلك بركني السلطة التشريعيّة، وبالقضاء الدستوري. ولم يحدث أن واجهت الولايات المتحدة حُكمًا متمكنًا ومتمسّكًا بعدائه لمفاهيم الديمقراطيّة الليبراليّة كما هو الحال اليوم.
رجال أعمال يبتعدون عن تمويل الإعلام المعارض في خطابه لترامب، خوفًا من إجراءات انتقاميّة من قبل السلطات الضريبيّة. ووسائل إعلاميّة تعدّل من خطابها، تجاه ترامب نفسه، خشية أن تواجه شح الأموال لهذا السبب. وحزب المعارضة الوحيد، مرتبك في كيفيّة التعامل مع موجة عاتية من هذا النوع.
ماذا تبقى، غير التمسّك بالبيرقراطيّة التقليديّة، وثقافة المؤسّسات، لمنع الانزلاق نحو "ديمقراطيّة مُعيبة" من هذا النوع؟ هي المؤسّسات نفسها التي يحاول ماسك تهشيمها، و"ترشيقها"، وقطع تمويلها وتخفيض حجم قوّتها البشريّة العاملة. هنا تتقاطع فظاظة الخطاب المناهض لدور الدولة، مع أولويّات السلطويّة المعادية لدور المؤسّسات غير المنتخبة، والضامنة لقيم الدولة الليبراليّة في وجه الشعبويّات العابرة. وهذا ليس مشهدًا أميركيًا فقط، ثمّة نسخ شعبويّة –يحبها ماسك كثيرًا بالمناسبة- مماثلة في مختلف الدول الأوروبيّة، وتتماثل مع الرؤى التي يحلمها اليمين الشعبوي الأميركي.

المركنتيليّة العائدة
إلى هذا المشهد يسير العالم. لقد كان النموذج الغربي المهيمن مواءمةً ما بين ديمقراطيّة أخذت بمبدأ المشاركة الشعبيّة في الحكم، وليبراليّة تتمسّك بحدود السلطة المنتخبة، كي لا يتكرّر نموذج النازيّة التي جاءت أصلًا بالاقتراع. وكان لها رؤية قيميّة للعالم ودوله وحدودها، بمعزل عن رأينا بهذه الرؤية أو بكيفيّة تطبيقها. وهذه الرؤية بالذات، هي ما يهشّمها هذا اليمين الشعبوي.
وكانت العولمة، وفتح الحدود أمام التجارة جزءًا من هذه الرؤية. وهنا أيضًا جزءٌ آخر من الحكاية، مع استعادة اليمين الشعبوي لقيم "المركنتيليّة" التي سادت في العالم ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر. ثقافة الحروب التجاريّة، ومراكمة الفوائض في العلاقة مع الخارج، واستعمال النفوذ السياسي لامتصاص الثروات من الدول الأخرى. هي ثقافة لا يمكن أن تجد مكانًا لها إلا ضمن مقاربة سياسيّة أوسع، تتجاهل الحدود التي يمكن أن يقف عندها توسّع الدول الامبراطوريّة ومواجهتها مع الآخرين. في ذلك، نعود مجددًا للانقلاب على المفاهيم السياسيّة التي قادت العالم الغربي منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية.
هذا هو العالم اليوم. سيكون بوتين على الطاولة نفسها مع ترامب، في مشهد سنراه قريبًا. وسيبحثان كيفيّة تقاسم الثروة والنفوذ في أوكرانيا. ولن تراهن أوروبا أو شرق وجنوب آسيا على مظلّة الولايات المتحدة الأمنيّة، ولا على قواعدها التي يحلم ترامب في كيفيّة تفكيكها وتقليص حضورها. لن يكون هناك سببٌ يقنع أحد من هؤلاء الحلفاء بعدم السعي لامتلاك قنبلة نوويّة، أو لإنفاق المزيد من الأموال على السلاح والتسلّح، على حساب سائر أشكال الانفاق.
وهذا، مجددًا، ما يريده ترامب. اعتمدوا على أنفسكم. هذا ما قاله لهم.