قبل أيام وبدعوة من محترف سميح زعتر في زغرتا، حاضر الفنان والرسام بولس خوام، ابن إهدن وزغرتا هو أيضاً، عن أعمال الفنان صليبا الدويهي عموماً، وبنوع خاص عن جداريّات كنيسة مار يوحنا التي نفّذها في خمسينات القرن الماضي، تحت عنوان "هندسة اللون والروح".
ثٌمّ عُرِض بداية شريطٌ مصوَّر للفنان ألكسي فرنجيّة، عن جداريات الكنيسة، تجاوز فيه العرض العادي التقريري إلى توليفة لونيّة وضوئية وشكلانيّة، تنقّلت فيها الكاميرا، وسط مؤثّرات موسيقيّة وصوريّة، متباطئة حيناً ومتسارِعةً أحياناً، قابضة على القبة والسقف في كلّ حركةٍ، ماحيةً الحدود والفواصل بين اللوحات لتوحّدها دوماً في رؤية متجلّية من تحت إلى فوق، كأنما من عالمٍ أرضي ماديّ إلى عالم علويّ سماويّ مجرَّد وروحاني هو ما تحدّث به مرّة الدويهي نفسه عن ضرورة أن يكون الفنّ عمليّة ارتقاء سامية متحرّرة من العالم الماديّ الملموس وقشوره وأثقاله.
بين اللوحة والرسالة
ثمّ بالتناوب بين بولس خوام وفوزي يمين، بدأ خوام عرضه. يشرح مرحلة من مراحل حياة الدويهي ليتوّجها فوزي بقراءة من كتاب الأب يوحنا الحبيب صادر صليبا الدويهيّ في سيرته الذاتيّة[1] عن سيرته وأعماله والذي ضمّنه المراسلات التي جرت بينهما على مدى سنوات، والتي يمكن عبرها استشفاف فكر الدويهي ونظرته الفنّية وتطوّرها، إضافة إلى اكتشاف أسلوبه الكتابي باللغة العربية وما يحمله من شاعرية وجماليّة. كما كانت قراءات ممّا قيل فيه وكُتِب عنه وخصوصاً القصيدة التي قالها فيه وفي فنه الشاعر سعيد عقل.
مرحلة أولى كلاسيكية وانطباعية
قسّم المحاضر عرضه ثلاثة أقسام، فأعطى في القسم الأول نبذة سريعة عن حياته، من مولده في العام 1909 كما يُرجَّح، إلى ظهور موهبته المبكرة إلى انتقاله إلى بيروت للدراسة عند الفنان اللبنانيّ حبيب سرور مع توصية من البطريرك أنطوان عريضة. وذكر خوام أنه في هذه المرحلة كان متأثرّاً، ككلّ مبتدئ بأستاذه وبالمدرسة الكلاسيكيّة مع بداية نزعته الانطباعيّة. رسم وجوهاً وشخصيّات وطبيعة لبنان البكر ومشاهد تفصيلية عن مطارح في الحارة التي نشأ فيها أو في أماكن أخرى من بلدتيه زغرتا-إهدن. وقد انتهت به هذه المرحلة، بعد أربع سنوات، إلى تعلّم الأصول بشكلٍ معمَّق وإلى إتقان العمل.
ثم حصل من الحكومة اللبنانيّة على منحة للدراسة في فرنسا، وهناك دخل أكاديميّة الفنون الجميلة العليا بعد امتحان دخول بالغ الصعوبة حلّ فيه ثانياً بين ألف وخمسمائة مرشّح. تابع دروساً جامعيّة وسّعت مداركه وعمّقت نظرته إلى الفنون، وبالطبع أمكنه زيارة مختلف المعارض والاحتكاك بالكثير من فناني العصر ممّا أغنى معارفه.
بيروت وبداية الشهرة
عودته إلى لبنان شكّلت محطّة مهمّة في مسيرته الفنّية. فهو بعد تزيينه كنيسة الديمان رأى أنّه ما يزال في المرحلة الكلاسيكيّة وأنهّ في أعماله "ملتزم لا مبدع"، ليبدأ مرحلة تفتيش في الذات وعن الذات المشرقيّة، عن التراث العريق. وواظب على هذا التفتيش عندما فتح محترفاً في بيروت وأقام معرضاً حضره رئيس الجمهورية ووزراء وشخصيات.
وفي محترفه زاره عبقريٌّ آخر من لبنان، الشاعر جورج شحاده الذي اقترب منه بعد تأمل لوحاته وهمس له: "يا صليبا، لقد تخطّانا العالم ونحن ما نزال نروي القصص والأخبار". فكانت هذه العبارة محفّزا له على إعادة النظر في أسلوبه وعلى التفتيش عن نهج فنّي جديد سيجده في اغترابه في الولايات المتّحدة لاحقاً حيث سيثابر على ارتياد العوالم غير المُكتَشفة التي كان يفتّش عنها.
المرحلة الثانية في أميركا استكشاف واستشراف
كان لا بدّ من الكلام على هذه المرحلة إذ فيها توفّرت الأسباب واشتدّت رغبة صليبا الدويهي في التنقيب عن معالم عريقة في عالم الفنّ في البلاد البعيدة كما يذكر في إحدى رسائله. وفي الولايات المتحدة حيث هاجر واصل أبحاثه ومتابعته مسارات الفنّ ونشاطاته في كلّ زاوية تمكّن من الوصول إليها. وجاءته الصدمة بعد أحد معارضة إذ كتب أحد النقاد: "إن فنّ الدويهي ينتمي إلى القرن الماضي". هذه الصدمة دفعته إلى الانقطاع إلى حدٍّ ما عن الرسم والانصراف مدى سنوات على البحث والدراسة والتفتيش آملاً في التوصّل إلى ما يرضي ذاته في التعبير عن هذه الذات، وعمّا يرضي الفنّ بحسب نظرته ومفهومه لهذا الفنّ. وفي هذه المرحلة تبلورت عنده رؤية فنّية واضحة قائمة على اعتباره العقل منارة كلّ عمل وبحث عن الذات. وفي هذه المرحلة بالذات جاءه العرض من المغترب الزغرتاوي في المكسيك، قبلان المكاري، لتزيين كنيسة مار يوحنا في زغرتا ورسم جداريّاتها.
محطّة مهمّة على طريق التحوّل، بداية التميُّز
هذه المهمّة وفّرت له الفرصة لترجمة ما توصّل إليه وللتعبير عن نظرته الجديدة. عاد إلى لبنان، وانعزل في دير غوسطا حيث واظب على الأبحاث في تاريخ الشرق والديانات الشرقية وفنونها، من البيزنطي إلى الأشوري والفارسي وصولاً إلى السرياني. وقد شكّل له هذا التراث معيناً نهل منه الأسس الجديدة التي طوّرها من خلاله، وطبّقها في الجداريات التي رسمها في غوسطا قبل نقلها وتثبيتها في الكنيسة. وهذا ما استفاض المحاضر الفنان بولس الخوام في شرحه على الشاشة للوحات كنيسة مار يوحنا في زغرتا.
أوضح خوام بداية أن الكنيسة بُنيت على شكل بازيليك، لكنها في الحقيقة كاتدرائيّة في مفهوم البناء الكنسيّ، وشرح الفرق بين الاثنين وما لذلك من دلالات دينيّة. ثمّ شرح المبدأ الذي اشتغل على أساسه الدويهي، وهو أن الكنيبسة ليست مكاناً للصلاة، بل هي مزار حضاريّ يعبّر عن حضارات الشعوب، والفنون عموماً تجمع الشعوب، ولذلك تطلّع الدويهي إلى عمله على أنّه ذو بعد مستقبليّ في أمّة تفتقر إلى الفنّ كما يقول. أنا "أصور مستقبل أمّتي" و"أمّتي تفتقر إلى الفنّ".
ويتابع خوّام أنّ الدويهيّ لم يُرِد النقل الحرفي عن الفنّ الكنسي الأوروبيّ، ولذلك تعمّق في أبحاثه حول الديانات االشرقيّة القديمة ، واستلهم منها تلك الروحيّة الشرقية في ما يظهر في لوحاته من دلالات واقتباسات إن جاز التعابير من هذه الديانات، منها مثلاً الحيوانات الأربعة التي تظهر مع الانجيليّين الأربعة مع ترمز إليه: الثور والأسد والنسر والإنسان.
وأمام اللوحات المعروضة على الشاشة وقف خوّام يبيّن ويُفصِّل الدقائق والتفاصيل التي أضفت عليها جماليّة خاصّة ومميَّزة. فليس في لوحات الدويهي، لا نور آتٍ من خارج، ولا ظلال بالتالي، كما أنها خالية من الأبعاد. وبذلك حقّق الفنان الهدف الأساسي من عمله الكنسيّ، فهي من جهة نزعت عن اللوحة كل بعد خاصّ أو مستقلّ، لتجعل من الكلّ (اللوحات كلها) وحدة متكاملة، كأنما هي وحدة الوجود والإيمان. وإذا أضفنا إلى ما سبق ميزة ثالثة وهي ندرة الخطوط الدائرية أو المنحنية، وطغيان الخطوط المستقيمة العموديّة، يتهيأ لنا ما أراده الدويهي، وهو انفصال العالم القدسيّ الذي يرسمه عن العالم الدنيويّ، وتوجّه عناصره إلى الأعلى في ما يبدو ارتقاءً إلى العالم السماويّ. هذا ما يتبدّى في رسومات الشخوص المقدّسين الذين استوحى أيضاً وجوههم وأجسامهم من محيطه المحليّ، كما رسم ثيابهم بشكل مبسّط بعيداً عن الزخرفة والنمنمة والتعقيد كما في لوحات الكنائس الغربية أو البيزنطيّة. وهو بذلك طبعاً نقل كنيسة الشرق ببساطة مؤمنيها وفقرهم وبراءة إيمانهم. وهنا أقام خوام، من خلال العرض، مقارنة مع الأعمال البيزنطية القديمة ومع الفنون الكنسية الغربيّة، كما عرض بشكلٍ مستفيض صوراً من الرسومات الفارسيّة والأشوريّة على الأخصّ التي تأثّر بها الفنان واستلهمها ليرسم بطريقته الخاصة شخصياته في جداريات الكنيسة.
وتحدّث خوام عن الألوان لافتاً إلى حسن اختيارها ومزاوجتها، خصوصاً مع الألوان المساعدة المحيطة بها. لافتاً إلى ما فيها من صفاء وشفافيّة في مساحات ممتدّة على اللوحة خالية من كل خطّ وتفصيل، بشكلٍ أننا إذا ما حذفنا الوجوه مثلاً منها نرانا أمام لوحة لونيّة تجريديّة، أسقط منها الدويهي تفاصيل الخطوط والزخرفات لصالح اللون بتدرّجاته ومشتقاته، وبخفّته وثقله على القماشة. ومن الواضح أن الدويهي كان بذلك يحضّر للمرحلة الثالثة الأخيرة في مسيرته الفنّية، مرحلة التجريد المطلق.
المرحلة الثالثة: انطلاق في عالمه الخاصّ
في هذه المرحلة الثالثة تخلّى الدويهي كلّياً عن الخطوط والتفاصيل، ليركزّ على الألوان يُسقط فيها ومن خلالها الفكرة المجرّدة التي لا يمكن بلوغها إلا بالعقل والحسّ الرفيع. وقد استعرض خوام ثلاث لوحات للدويهي من المراحل الثلاث التي مرّ بها، لمشهدٍ واحد هو دير ما انطونيوس قزحيا على مشارف قنوبين، وبيّن حركة التطوّر في عمله من المرحلة الكلاسيكية الانطباعية الأولى، إلى بداية اختزال الخطوط والأشكال في الثانية، إلى التجريد الكلّي في الثالثة حيث تكثّفت الألوان البسيطة حول خطوط واهية كما الصور المجرّدة المرتسمة في خيال الفنان، والتي أراد أن ينقل فيها روح الشرق كما يقول، وهذا هو الجديد البارز واللافت الذي قدّمه.
وتحدّث خوام قليلاً عن الخطوط السريانية التي رسمها الدويهي والتي سيجرّد منها فناً خاصّاً "الخطوطيّة"، وعن التفاصيل المنمنمة التي شكّلت إطاراً لأعماله، مثل غصون الدوالي التي كانت يُحفر حفراً في القديم في الأعمال الفنية، فيما هو نقلها رسماً بالألوان.
الدَّيْنُ علينا
بشيء من الأسف يختم بولس خوام الكلام عن فناننا الكبير لافتاً إلى ما لحق به وبأعماله من ظلم في وطنه، حيث تنكّر له قليلاً مسؤولو بلدته فلم يهتموا بفنّه كما يجب، وتنكّرت له دولته فلم تَفِه حقّه كما تفعل الدول الراقية مع كبارها. وبعد تفصيل بعض وجوه الإهمال، قال خوام إنّ تعويلنا اليوم هو على وزير الثقافة الجديد، المثقّف غير البعيد عن حضارة وطنه ولا عن فناننا العظيم، على أمل أن تلقى أعماله اهتماماً يقيها من التلف والضياع، وأن يلقى شخصه التكريم والمرتبة الوطنية التي يستحقّها. لنفِ هذا العظيم بعضاً من دَيْنه علينا هو الذي أكّد في إحدى رسائله، أنه لم يهاجر إلا لأنّي "آليت على ذاتي ألا أعود إلى لبنان قبل أن أمثّله تمثيلاً فنّياً طول الحياة في متاحف الولايات المتحدة، من خلال لوحات بريشتي الخاصّة وذات أسلوب تجريديّ تتّسِم بنور جماله (...)".
[1] . يوحنّا الحبيب صادر، الأب الأنطوني، صليبا الدويهيّ في سبرته الذاتيّة - في رسائل إلى الأب يوحنّا صادر الأنطونيّ (من سنة 1964 إلى سنة 1993)، منشورات منارات من لبنان، 2004، 191 صفحة.