من المفارقات في "لحظتنا" التاريخية الراهنة، أننا لم نعد بحاجة للحديث عن "مؤامرات" تُحاك من وراء الكواليس، ضد بلادنا. فـ"المؤامرات" باتت تُنشر عبر وكالات الأنباء الدولية، أو تُعلن على ألسنة مسؤولي الدول التي تُعدُّها. بل إنّ الضغوط التفاوضية التي تمارسها قوى كبرى حيال قوى أضعف، باتت تُبث على الهواء مباشرةً.في الحالة السورية، ينطبق ذلك على المعلومات التي نشرتها "رويترز"، مؤخراً، حول الحوار الإسرائيلي- الأميركي، بخصوص مستقبل سوريا. فإسرائيل ترغب في أن تبقى بلادنا، ضعيفة ومفكّكة -هكذا قِيل علناً- وإحدى رهاناتها في ذلك، الإبقاء على القواعد العسكرية الروسية في الساحل السوري.
بعد ساعات من نشر الخبر أعلاه، نقلت "رويترز" أيضاً، هذه المرة، عن مسؤول بشركة "ستروي ترانس غاز" الروسية، أنها لا تزال تواصل عملها كالمعتاد في مرفأ طرطوس، وأنها لم تتلق أي بلاغ حول إلغاء عقدها. وأضاف المسؤول الروسي أن ما يُقال عن إلغاء اتفاقية استثمار المرفأ، "مجرد كلام"، لأن إلغاء الاتفاقية يجب أن يمر عبر "البرلمان والرئيس"، وفق آلية إقرار الاتفاقية نفسها سابقاً. و"مجرد كلام"، تلك، كانت وصفاً لإعلان الإدارة السورية بدمشق إلغاء عقد استثمار المرفأ، في 22 كانون الثاني/يناير الفائت.
وكان يمكن للخبر الأخير أن يتحول إلى "ترند" يشغل السوريين، حول معناه وتوقيته، والإهانة التي يتضمنها للسلطات الحاكمة في العاصمة، لولا انشغالهم بتطورات المشهد بجرمانا، والدخول الإسرائيلي "الوقح" على خط التوتر الأمني المندلع هناك.وفي تفكيك العلاقة بين التطورات المشار إليها، نذكّر برد الفعل الروسي بعيد إعلان السلطات في دمشق، إلغاء اتفاقية الاستثمار الروسية لمرفأ طرطوس. يومها، نقلت صحيفة "الشرق الأوسط" عن النائب الأول لرئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الدوما الروسي، قوله، إن سوريا ألغت الاتفاقية لأنه أصبح من الصعب على الشركة الروسية الوفاء بالتزاماتها. و"الالتزامات" التي قصدها البرلماني الروسي، هي الـ500 مليون دولار، التي كان يتوجب على الشركة الروسية استثمارها لتطوير البنى التحتية للمرفأ، بموجب العقد الموقّع مع نظام بشار الأسد عام 2019، والذي بموجبه، مُنحت الشركة الروسية استثمار المرفأ لـ49 عاماً. هذه "الالتزامات"، لم تتقيّد بها الشركة الروسية. إذ بقيت بنية المرفأ على حالها، الأمر الذي اعتمدت عليه سلطات دمشق الجديدة، لتبرير فسخ العقد.
وفي تقرير صحيفة "الشرق الأوسط"، المشار إليه، تحدث مصدر دبلوماسي روسي، معبّراً عن لامبالاة كبيرة من جانب السلطات الروسية حيال إلغاء عقد استثمار مرفأ طرطوس، كاشفاً للسوريين، لأول مرة، أن "مجموعة قاطرجي" المقرّبة من النظام السابق، كانت تمتلك 50% من أسهم استثمار المرفأ، و50% للجانب الروسي. واصفاً فسخ العقد بأنه "يعدّ تعاملاً منطقياً تجاه شركات خاصة لم تقم بتنفيذ التزاماتها وارتبطت بفساد النظام السابق".
ومن ثم، زار نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، العاصمة دمشق، نهاية شهر كانون الثاني/يناير الفائت، والتقى الرئيس السوري أحمد الشرع، وعلّق يومها على إلغاء عقد استثمار مرفأ طرطوس، بأن "هذه قضية فنية تجارية تتعلق بعمل شركتنا في المرفأ، وفي كل الأحوال فإن طرطوس بحاجة إلى تحديث ويمكن التفاهم لتسوية كل المشكلات". وكان الوفد الروسي يومها، يضم ممثلين عن الشركة الروسية المعنية، والتي أكدت للجانب السوري استعدادها لمواصلة العمل، وأشارت إلى الصعوبات التي واجهت عملها سابقاً.وهكذا يمكن أن نلحظ كيف تطورت اللهجة الروسية حيال قضية استثمار مرفأ طرطوس، من لامبالاة إلى تفاوض مع السلطة الحالية بدمشق، وصولاً إلى الحديث عن استحالة إنهاء الاتفاقية من جانب واحد (الجانب السوري)، وأن أحداً "لم يخطرنا" بذلك -أي بقرار إلغاء الاتفاقية- وفق ما نقلت "رويترز" عن الرئيس التنفيذي لشركة "ستروي ترانس غاز" الروسية، يوم السبت. التصريح الأخير أعقب تداول الأنباء عن الطلب الإسرائيلي الموجّه لواشنطن بإبقاء القواعد العسكرية الروسية في سوريا.
وحتى ساعة كتابة هذه السطور، لم يصدر أي رد أو توضيح من جانب السلطات بدمشق، حيال اللبس الذي حملته تصريحات الروس الأخيرة. وعدم صدور أي توضيح يبرر هذه "الاستهانة" الروسية المُستَجَدة، بعد شهر فقط، من تعامل روسيّ ندّي مع السلطات الجديدة، يعني أننا أمام مشهد ضعف خطير في مناعة الممسكين بزمام الأمور بالعاصمة، ضد التدخل الخارجي المباشر والعلني أيضاً. ضعف مناعة لا يظهر فقط في الجنوب السوري، أو حتى وصولاً إلى خاصرة دمشق الشرقية، بل يظهر في بقاع كثيرة من التراب السوري.ويمكن استسهال تبرير ذلك، بإلقاء اللوم على "الأقليات" التي لا تريد الانتظام بمشروع الدولة الوليدة. كذلك، يمكن الحديث عن فلول النظام، في كل بقعة تعجز فيها السلطات عن تقديم تبرير لإخفاقات أمنية أو مجتمعية. وعلى الضفة الأخرى، هناك استسهال مضاد في التبرير، من قبيل إسباغ السمة "الدينية المتطرفة" على عموم السلطة الحالية وجمهورها الكبير من "الأكثرية". هذا الاستسهال في توصيفنا لأسباب ضعفنا، هو تحديداً، الأمر المرغوب من جانب إسرائيل، الهادفة إلى إبقاء سوريا، ضعيفة ومفكّكة. ضعف ازداد بشدة ملحوظة خلال الشهر الأخير تحديداً.
فما الذي تغيّر خلال هذا الشهر؟ يمكن استسهال تقديم إجابة أيضاً، بالإشارة إلى الإسرائيلي، بوصفه العنصر المستجد في المشهد. وهذا التوصيف غير دقيق، فالدخول الإسرائيلي على المشهد السوري بصورة فاقعة وعلنية، تفاقم تحديداً، بالتزامن مع إرهاصات عقد مؤتمر الحوار الوطني. وذاك المؤتمر الذي من المفترض أن يحدد مستقبل سوريا، تم التحضير له خلال ثلاثة أسابيع، وتم عقده خلال يومين، كان الحوار فيهما، لمجرد ساعات فقط. وخلا المؤتمر من أي تمثيل مُرضٍ للأكراد والدروز، ومكوّنات مجتمعية أخرى. واستهدف منظموه تحييد كثيرٍ من الشخصيات غير المرغوب بها من السلطات، عبر دعوات اللحظة الأخيرة لمن هم خارج البلاد. وهكذا خلقت طريقة الإخراج السيئة قناعةً لدى شريحة واسعة من السوريين، بأن عقد المؤتمر كان إجراءً شكلياً، هدفه منح تفويض داخلي للشرع، لتعزيز سلطته. فكانت النتيجة عكسية، حسب المؤشرات الأولية، حتى الآن.لكن ما الحلول المتاحة لإنقاذ سوريا من منزلق الضعف الذي ذهبت باتجاهه؟ إما حكومة تعيد رفع سقف تطلعات السوريين المُنتَظرة من العهد الجديد، تشاركية بكفاءات من خارج "اللون الواحد" الممسك بزمام السلطة العسكرية والأمنية، وبصلاحيات مرتفعة، أو إعادة إنتاج مؤتمر الحوار الوطني بصيغة جديدة تشمل كل مكونات الطيف السوري، وبطريقة جدّية هذه المرة. أما الخيارات الأخرى، من قبيل توسيع دائرة العنف، بذريعة احتكار القوة بيد "الدولة"، لن تكون إلا وصفة للذهاب بسوريا إلى هاوية مُرتقبة بشغف، لدى "الجار" المترقِّب بجنوب غرب البلاد.