هدأت الأوضاع في "جرمانا" الواقعة في جنوب دمشق، والتي تغلب عليها في الأصل الصبغة الدرزية، وتتواجد فيها السلطة إلى جانب فصائل محلية تتولى فعلياً ضبط الأمن منذ سقوط الأسد. بالتوازي مع الهدوء، أعلِن عن أسماء اللجنة المناط بها صياغة الإعلان الدستوري، ولم يكد المهتمون بالخبر يبحثون عن معلومات خاصة بتلك الأسماء، حتى تداولت وسائل الإعلام فقرات من الإعلان المنتظر صدوره لاحقاً، ما يعزز الانطباع بأن الإعلان العتيد مُعَدٌّ سلفاً، أقله ببنوده الأساسية وخطوطه العامة.نظرياً، لا رابط بين الخبرين أعلاه، أما واقعياً فيجوز القول إن إطفاء فتيل أزمة ظهرت جرمانا، تلاه مباشرة تصرّف من المحتمل جداً أن يتسبب بأزمة أكبر على قاعدة الريبة إزاء نوايا السلطة، حتى إذا لم تتخذ أزمة الثقة على الفور مظهراً أمنياً كالذي حدث في جرمانا. لكننا لا نستطيع استبعاد الربط بين الوضع الأمني وما يحدث على الصعيد السياسي، فمن الملاحَظ كثرة الحوادث الأمنية منذ الإعلان عن لجنة مؤتمر الحوار الوطني، ثم انعقاده عملياً لساعات قليلة ثم الخروج بمقررات بدا أنها مُعدَّة سلفاً، فوق استثنائه عملياً المشاركة الكردية المُعترَف بها، ولا يُستبعد أن تكون مشاركة السويداء غير مُرضية لكتل وازنة فيها.
كانت كلمة الرئيس الشرع الافتتاحية في المؤتمر واضحة وحازمة فيما يخص احتكار السلاح من قبل الدولة، وهي رسالة موجَّهة إلى قسد في الشمال الشرقي، وإلى الفصائل المحلية في السويداء، بل أتت مقررات المؤتمر بمثابة تجريم لتلك الفصائل بإعلانها خارجة على القانون. هذا الحزم، المترافق بما يُنظر إليه كتهميش وإقصاء لبعض المجموعات السورية، فتح الباب أمام نتنياهو كي يطالب قبل عشرة أيام بنزع تام للسلاح بدءاً من جنوب دمشق، والقول أنه لن يسمح لقوات السلطة الجديدة بالتواجد جنوب دمشق.ولم يكن مستغرباً أن يعود الجانب الإسرائيلي للّعب على تناقضات داخلية، لمناسبة التصعيد الذي حدث في جرمانا، فينشر بياناً مفاده أن نتنياهو ووزير دفاعه أوعزا للجيش الإسرائيلي بالاستعداد لحماية جرمانا. في المرتين صمتت السلطة عن التدخل الإسرائيلي الفظ، وبما يطعن على نحو صارخ بالكلام الخاص باحتكار السلاح (الذي صدر عن مؤتمر الجوار الوطني).
من المفهوم طبعاً عدم وجود إمكانية لمواجهة التصريحات والنوايا الإسرائيلية، لكن حال الضعف إزاء الخارج لا يجب أن ينقلب استقواءً على الداخل، فمثل هذه الوضعية للسلطة اختبرها السوريون من قبل، ولا تريد غالبيتهم الساحقة تكرارها. ولا يريد معظم السوريين أيضاً أن تُرضي السلطةُ الخارجَ كي يأذن لها بالتسلط على الداخل، فهذه أيضاً وصفة مجرَّبة، ورغم كونها مغرية بنجاحها على المدى القريب (وربما المتوسط) إلا أن مآلاتها كانت كارثية في كل البلدان التي اختبرتها.اليوم، سيكون من التسرّع أن تنطلق السلطة (والسوريون عموماً) من أن وحدة سوريا بديهية وناجزة، بصرف النظر عمّن يحكمها وكيف سيحكمها. قبل ثلاثة شهور فقط كان الحديث عن خمس سوريات منفصلات، وما حدث منذ الثامن من كانون الأول المنصرم أن ثلاثاً منها صارت خاضعة للمركز في دمشق. الافتراض القائم على أن سقوط الأسد سيؤدي تلقائياً إلى إعادة توحيد البلد ليس هناك ما يؤيّده واقعياً، فمطالب قسد والإدارة الذاتية (السابقة على السقوط) هي ذاتها لم تتغير، ومطالب كتل وازنة في السويداء أيضاً لم تتغير عمّا كانت عليه قبل سقوط الأسد. بمعنى أن أيّاً منهما لم يُضف مطالب جديدة موجّهة إلى السلطة الحالية حصراً، أو على سبيل معاداتها، ويُستحسن مناقشة تلك المطالب بروحية تلحظ ذلك.
حتى الآن لا يوجد ما يدعم التكهنات حول تقسيم مستدام لسوريا، لكن إبقاءها فعلياً منقسمة بإرادة خارجية ممكن بسهولة. بقاء القوات الأميركية كفيل بتدعيم موقع قسد، وتل أبيب قادرة على استهداف أية قوات تتقدم في المنطقة "العازلة" التي تقرر حدودها. من السهل بناءً على ذلك تصوّر الحل بإرضاء قوى الخارج، أو اعتبار ذلك خياراً لا مهرب منه، وبالتالي لماذا تُقدَّم التنازلات خارجياً وداخلياً؟مشكلة التساؤل (الذي يبدو منطقياً) أعلاه أنه يُقرّ سلفاً بانفصال السلطة وجعلها طرفاً في مواجهة المجتمع ككل، أو في مواجهة جزء أو أجزاء منه. أي أن السلطة بموجب ذلك تفقد طبيعتها التمثيلية، بوصفها سلطة جامعة، ولا يكون مطلوباً منها السعي إلى إرضاء الداخل أولاً وقبل أي اعتبار. هذا الإقرار بانفصال السلطة لا يلحظ حقيقة اندلاع الثورة على الأسد الذي كان أفضل نموذج له، والذين قاموا بالثورة (أو استفادوا من اندلاعها) لم يطرح أحد منهم تقسيم سوريا، بل الاختلاف هو على طبيعة الحكم فيها.
تخوين أية جماعة سورية على قاعدة الاختلاف هو أسوأ ما يمكن فعله لتعميق الخلافات أولاً، ولإعطاء فرصة أفضل للخارج كي يستقوي ويفرض شروطه. ومن المؤسف أن موالين للسلطة الحالية لم يقصّروا في تخوين أهالي السويداء ثم جرمانا، وبكلام منسوخ عن موالي الأسد عندما كانوا يتهمون المعارضة بالعمالة لإسرائيل. هذا سلوك يؤذي السلطة التي احتوت الأحداث الأخيرة بأفضل مما يريد أصحاب الرؤوس الحامية، لكن من الجيد لو أنها لا تكتفي فقط بدور الإطفائي عند الضرورة، ولو أنها تستبق الحرائق أو لا تسمح بإشعالها.استفادت السلطة في الأسابيع الأولى من زاوية مقارنتها مع أسوأ سلف، ومع المتخيَّل عن سلطة إسلامية متزمتة، ونجاحها في ذلك لا يعفيها من استحقاق إدارة البلد، الاستحقاق الذي يُقاس النجاح والفشل فيه بمعايير مختلفة تماماً. وحتى الآن لم تقدّم السلطة نموذجاً يجتذب أولئك الذين لا يعيشون تحت سيطرتها، وإذا كان جزء من الفشل في إدارة الملف المعيشي يرجع إلى الانهيار الاقتصادي والمالي السابق فإن نوايا السلطة المتعلقة بالمستقبل، والتي ظهرت طلائعها بمؤتمر الحوار، ثم بتعيين لجنة صياغة الإعلان الدستوري، وما تسرب عن الأخير؛ هذه جميعاً إشارات غير مشجِّعة للمطالبين بحقوق مواطنة كاملة متساوية للجميع، وبنظام ديموقراطي تداولي، سواء كانوا مقيمين تحت سيطرة المركز أو خارجه.
لعل السير بالنموذج الديموقراطي للمواطنة هو الأساس الواقعي الوحيد لتوحيد البلد، إذا لم تنعقد النية على توحيدها بالقوة التي تتطلب موافقة الخارج وإرضاءه. وسيكون مضيعةً للوقت الدخولُ في جدال غير مثمر حول أولوية التوحيد على ما عداه، خصوصاً مع الاستعجال الذي تدير به السلطة العديد من الملفات العامة الحساسة، والتي لا تنتظر لأجلها توحيد البلد. إن ثمن التوحيد يُدفع للخارج فقط، وتحصين الداخل بالمواطنة والمشاركة ليس ثمناً، وليس مطلوباً لمقارعة الخارج، بل هو مطلوب أصلاً لذاته، ومن أجل عموم السوريين. لعل أفضل سبيل لاحتكار الدولة السلاح هو ألا تحتكر السياسة.