يعكس التوتر الدبلوماسي الأخير بين تركيا وإيران، والاستدعاء المتبادل للسفراء والقائمين بالأعمال بين الجانبين، مشهداً إقليمياً جديداً يتشكل في المنطقة منذ آواخر عام 2024، ليكون هذا هو التوتر الثاني منذ بداية العام الحالي، بعد الهجوم الذي شنه مسؤولون إيرانيون، على رأسهم مستشار المرشد علي خامنئين على السياسية التركية بسبب سياستها في سوريا.
تراجع إيراني وصعود تركي
تراجع النفوذ الإيراني بشكل كبير بعد الضربة التي تلقاها حزب الله اللبناني وفقدانه كامل قيادته تقريباً، ثم تبعه سقوط نظام بشار الأسد بعملية عسكرية استغلت الظروف المحيطة والفراغ الذي خلفه انسحاب الفصائل المدعومة إيرانياً من سوريا.
تمكن الرئيس الأميركي دونالد ترامب المعروف بنهجه المتشدد تجاه إيران، من حسم الانتخابات لصالحه، في وقت كانت طهران تسعى لاحتواء الوضع المتدهور، مما وضعها وجهاً لوجه أمام ضغوطات أميركية في ساحة النفوذ الأهم لها في المنطقة العربية، وهي العراق.
بالتوازي مع التراجع الإيراني، صعد نفوذ تركيا بشكل واضح، واستفادت أنقرة إلى حد كبير من سقوط الأسد، إذ وجدت نفسها أمام ساحة سورية مفتوحة، وخالية من الوجود الإيراني الذي شكل ضغطاً على أنقرة طيلة السنوات الماضية.
وقبل المتغيرات التي حصلت في سوريا، وسّعت تركيا من نشاطها العسكري شمال العراق، في وقت كانت ترزح فيه طهران تحت ضغط الهجمات الإسرائيلية خلال عام 2024.
قلق تركي
بعد يوم واحد من إعلان زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان لكلمته المنتظرة التي ألقاها آواخر شباط/ فبراير الفائت، وطالب فيها حزبه بإلقاء السلاح ووقف العمليات العسكرية، وجّه وزير الخارجية التركي حقان فيدان تحذيرات لإيران من الاستمرار في سياستها بدعم الجماعات في بلدان أخرى لإثارة الفوضى، لأن هذا قد يؤدي لدعم مجموعات داخل إيران، مشيراً إلى أن الخبرات الموجودة لدى إيران تمتلكها دول أخرى.
وحتى هذه اللحظة لا تزال إيران توفر غطاءً لبعض الجماعات المسلحة المرتبطة بحزب العمال الكردستاني التي تنشط على الحدود العراقية-التركية، كما أن وسائل إعلام تركية مقربة من الحكومة، سربت في وقت سابق، تقارير تؤكد تلقي حزب العمال الكردستاني النشِط في جبال قنديل شمال العراق، دعماً عسكريا إيرانياً.
ويبدو أن أنقرة لديها قلق من احتمالية أن تعمد طهران للتأثير على قرار العمال الكردستاني ودفعه لعدم الاستجابة للبيان الذي ألقاه أوجلان، خصوصاً أن القيادة التنفيذية للحزب في قنديل، هي صاحبة التأثير على قرار الكوادر أكثر من أوجلان.
حدود التوتر
على الرغم من التوتر، إلا أن البيانات الصادرة عن وزارتي خارجية البلدين، أشارت إلى العلاقات والمصالح المشتركة بين البلدين، مع الإشارة إلى بعض الخلافات، مما يوحي برغبة مشتركة لعدم الذهاب بعيداً في التصعيد، خصوصاً في ظل ما تظهره إسرائيل من رغبة بالتغول على مختلف الأطراف الإقليمية العربية والتركية والإيرانية، والمخاوف من انحياز إدارة ترامب لمصالح إسرائيل على حساب الجميع.
ومع الرغبة بالتهدئة التي ظهرت من خلال البيانات، إلا أن سيناريو ازدياد التوتر يبقى وارداً في حال أمعنت أنقرة بالتنسيق مع الجانب الأميركي، بتقليص النفوذ الإيراني في العراق، حيث يدور الحديث عن ضغوطات أميركية لإعادة تصدير النفط من إقليم كردستان إلى ميناء جيهان التركي، كما أن عرقلة تركيا لانفتاح سوريا على إيران، قد ينعكس سلباً أيضا على العلاقات التركية-الإيرانية، وهذا ما يدفع طهران حتى اللحظة إلى الاستمرار بالتواصل مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، حرصاً منها على الإبقاء على نفوذها، في ظل استمرار القطيعة مع دمشق.
على أي حال، سواء تم احتواء الأزمة الحالية أم تفاقمت، يبقى الواقع الراهن يشير إلى موازين جديدة تتشكل على الساحة الإقليمية، وبالتالي سيبقى الباب مفتوحاً أمام عودة التراشق الإعلامي إلى أن تصل الأمور لنقطة الاستقرار.