تسترعي من يتجول في شوارع دمشق عدة ظواهر ملفتة. الأولى هي الفقر الشديد، وهو خيط موصول بقوة بين الريف والمدينة، لكن الدرجات تتفاوت على نحو صارخ. ولا يبدو أنها تشبه عاصمة عربية أخرى في فقرها، أو من حيث، ما وصلت إليه من تدن للأوضاع المعيشية، ذلك أن سوء الحال عام وشامل، ولم تسلم منه سوى فئات محدودة جدا، حتى الذين يتلقون مساعدات من الأهل والأقارب في الخارج، لا يستطيعون الحفاظ على مستوى حياتي ثابت، بسبب الخراب الشامل، الذي ضرب المرافق كافة، ودمر الطبقات الاجتماعية، التي كان قائمة قبل الثورة عام 2011.
دمشق التي كانت واحة غنية زراعيا، تبدو لمن يتوغل في حاراتها العتيقة، ويرتاد مقاهيها ومطاعمها أنها تعيش على الكفاف، تقتصد، تدبر. ورغم أن أسعار المواد الأولية ليست عالية، إلا ان القدرة الشرائية للسكان متدنية جدا. المرتبات يُرثى لها، وتُصرف بالتقطير، ولا أحد يقدم إجابات عن عدم دفع رواتب الموظفين، لكن الاعتقاد السائد هو أن الأمر يعود إلى سببين، عدم وجود المال في خِزانة الدولة، التي نهبها آل الأسد قبل أن يفروا من البلد، واستحالة استقبال التحويلات المالية من الخارج، في ظل عدم رفع العقوبات الدولية، هذا بالإضافة إلى الأخبار المتداولة عن تسريح عشرات الآلاف، وهناك من يقول مئات الآلاف.
لا يعاني ريف دمشق من الدمار فقط، بل من الفقر أيضا، لا عمل هذه هي الكلمة الواقفة على كل لسان، لا صناعة، لا طاقة، لا زراعة في بلد زراعي، بات يستورد الفواكه من اليونان ولبنان والخضار من الأردن.
الظاهرة الثانية هي التسول. ومن يلاحظ فقر السوريين، يذهب في تفكيره إلى آن هؤلاء المتسولين في الشوارع هم من أهل البلد، ولكن من يعرف اللهجة، ويتهجى الملامح، لا يحتاج إلى عناء ليكتشف أن نسبة المتسولين السوريين لا تتجاوز 2 في المئة. حتى الذين نزلوا من المدن البعيدة وباتوا يستوطنون الفنادق الرخيصة، حول منطقة المرجة أو الحواري المحيطة بها، يبدون في فقر مدقع، لكن نسبة ضئيلة منهم تتسول. وجزء من هؤلاء قصد دمشق يبحث عن ذويه المفقودين في سجون الأبد، ولكن هناك مئات الألوف نزحوا من المدن التي دُمرت، أو تعرضت للجفاف، وصارت بلا اقتصاد. ويبدو أن دمشق ليست وحدها التي تعيش وضعا من هذا القبيل، بل كل المدن التي دُمرت فيها الأرياف، كإدلب وحماة وحلب، وما لم تحصل عملية إعادة إعمار، وتوفير الطاقة من أجل تحريك الاقتصاد، سيبقى هذا الوضع على حاله وسوف يتفاقم.
نساء وأطفال وعجزة على الأرصفة، بين السيارات، يعترضون المارة والسيارات، يطلبون المساعدة، والبعض منهم يبيعون المحارم وعلب العلكة والمياه، وليس هناك ورود كما هو الحال في بيروت. لا يحضر الورد في دمشق مدينة الزهر والياسمين، بسبب الجو غير المريح، الذي يخيم على البلد من جرّاءِ عقود القمع والنهب والتهجير، والأعداد الكبيرة من المفقودين، والمقابر الجماعية.
هؤلاء ليسوا من السوريين، لأنهم لا يتكلمون العربية، يتحدثون بعربية مكسرة، يحفظون نفس الجمل، التي يرددها المتسولون في إسطنبول وباريس ولندن، وهذا يعني انهم يتبعون مدرسة واحدة، تستثمر فيهم، الجهة ذاتها، ما يعني ان هناك شركة دولية لممارسة هذا النمط من الاقتصاد الهامشي. والطريف أنهم في إسطنبول يقدمون أنفسهم على أنهم لاجئون سوريون، وفي سوريا تركمان، وهؤلاء أنفسهم يحتكرون ممارسة مهنة ماسحي الأحذية، والصرافين الذين يعملون لمصلحة شركات أخرى.
الظاهرة الثالثة هي، احتلال ارصفة المدينة بالسيارات أو البسطات، وذلك يعود قبل كل شيء إلى غياب سلطات الدولة المعنية برصد المخالفات، واستغلال هذا الفراغ من قبل أصحاب الآليات المنتشرة بكثرة، وبعضها جاء إلى العاصمة بعد سقوط النظام، ونظرا لعدم وجود أمكنة كافية من أجل صف السيارات، يرميها أصحابها على الأرصفة. أما تجارة البسطات فهي منتشرة في جزء من دمشق، يمتد من جامعة دمشق إلى جسر الثورة والمرجة إلى حدود شارع الصالحية، ضمن مناطق حضرية، حولها هذا النشاط إلى شبه عشوائية.
الظاهرة الرابعة التدخين. الغالبية العظمى من السوريين في الشوارع والمقاهي والمطاعم والدوائر الرسمية والفنادق، يدخنون السجائر والنارجيلة، الرجال والنساء على حد سواء. لا توجد أمكنة للمدخنين في المحلات العامة، ويبدو هذا ترفا حين يثيره المرء مع المدخنين وغير المدخنين، مثل كل المشاكل التي يعانيها السوريون، فإن السبب السهل هو الوضع الذي وصله البلد، والمعاناة، وهناك شركات مصنعة تلبي الحاجة. وثمة من يتحدث عن سياسات اتبعها النظام السابق من أجل اغراق الناس في هذا العالم، بما في ذلك تشجيع تعاطي المخدرات مثل الكبتاغون والحشيش.