في روايته الشهيرة "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة"، يسرد الروائي السوري الراحل خالد خليفة، الذي كان مغرماً بمدينة اللاذقية واشترى فيها بيتاً مطلاً على البحر أطلق عليه اسم "شاليه الندم"، تاريخ مدينة حلب الحديث. في هذه الرواية، يركّز خليفة على انقلاب البعث عام 1963، الذي شكّل نقطة تحوّل محوريّة في تاريخ المدينة، حيث كان بداية التغيير الذي مسّ ملامحها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. لكن خليفة، الذي أحب اللاذقية واختارها موطناً دائماً له، لم يكن يعلم أن الأيام السوداء ستأتي عليه فيها، حين يصبح الدم أكثر وفرة من الماء... حيث لا مياه في مطابخ هذه المدينة.
مأزق حقيقي
بعد اندلاع المجازر والاشتباكات العنيفة، تجد المدينة نفسها في مأزق حقيقي، إذ تكاد الحياة تتوقف بسبب قطع المياه عن الأحياء. فالماء، الذي يُعدّ أساس الحياة، يصبح في هذا السياق ترفاً بعيد المنال، ما يجعل العطش يتحول إلى معركة يومية ضد الموت. في هذه المدينة المعتمة التي فقدت ملامحها، يصبح العطش ليس فقط نتيجة لفقدان الموارد، بل أيضاً وجها آخر من أوجه الموت الذي يطارد سكّانها في ظل العنف المستمر والدماء التي تسيل في شوارعها.
في مواجهة أوجاعهم وآلامهم النفسية، يلجأ سكان المدينة إلى حبوب المهدئات التي قد تهدئ قليلاً من نوبات الهلع والخوف التي تسيطر عليهم، لكن ابتلاعها يصبح تحدياً في ظل نقص المياه، كما يروي أحد سكان المدينة لـ"المدن"، فقد تم تفريغ الخزّانات الاحتياطية على الأسطح بالكامل، ليبدأ بعدها شجار عنيف باستخدام السكاكين على عبوات الماء المتبقية، خصوصاً في ظل فرض حظر التجوال الذي أغلق المتاجر ومنع الوصول إلى صناديق المياه.
في هذه الظروف القاسية، لم يعُد هنالك مجال للاستحمام أو الطبخ أو حتى شرب مياه نظيفة. بدلاً من ذلك، تمتلئ الشوارع بالجثث التي لا تجد من يدفنها، في انتظار حفر جماعية قد لا تصلها حتى قدسية الموت. وفي مشهد مروّع، أصبح من تبقى على قيد الحياة مضطراً للشرب من مياه مغاسل الموتى، حيث يقفون في طابور طويل، كما يقول أحدهم لـ"المدن" بمرارة: "نشرب مياه الموتى... فنحن أيضاً لم نعد أحياء".
هذا الواقع المرير لا يعكس فقط انعدام المياه، بل تحوّلها إلى رمز جديد للموت الذي يحيط بالمدينة من كل زاوية، ليُجسّد الصراع اليومي بين الحياة والموت في أبشع صوره... كيف لا والمجاز تلاحقها.
تاريخ أسود
في 26 تموز/يوليو من عام 1516، وقعت واحدة من أبشع الجرائم التي شهدتها الأراضي السورية في العصور الوسطى، إذ تمّت مذبحة جماعية في منطقة "التل"، بالقرب من قلعة حلب. في تلك الأيام، جمع السلطان العثماني سليم الأول آلافاً من المدنيين العلويين، من رجال، أطفال، نساء وكبار السن، في ساحة معروفة.
تم تنفيذ عملية تطهير عرقي شاملة، وتحوّلت الساحة إلى تلال من الجثث التي تم إحراقها، ما جعل تلك المنطقة تحمل اسم "ساحة التل". كان المشهد مرعباً إذ غطّت الدماء الأرض، وأمضى الجنود العثمانيون أياماً طويلة في قتل العزل.
في رسالته الشهيرة إلى السلطان سليمان القانوني، نقل سليم الأول تفاصيل الجريمة المروّعة قائلاً: "قتلنا كل من وقع علينا من القرى السورية، من قرى النصيرية وصولاً إلى أدغال الجسر وباب النسر. قد كُتب لنا النصر، ولن يكون لهم وجود على مرّ الزمان بعد الآن، فقد أكلت بقايا جثثهم وحوش الجبال وتماسيح الغابات".
هذه المذبحة كانت واحدة من أفظع الأمثلة على وحشية الحروب في تلك الحقبة، وتشكّل علامة فارقة في تاريخ المنطقة، إذ لُوحِظَ التطهير العرقي ضد مجموعة عرقية ودينية من العلويين الذين تعرضوا للاضطهاد والقتل على يد السلطنة العثمانية.
بعد مذبحة "التل" في 1516، التي ارتكبها السلطان العثماني سليم الأول، فرّ ما تبقى من العلويين الذين نجوا من الموت المحتّم إلى جبال اللاذقية، إنها "التغريبة العلوية" وقد اصطدموا بمصير مجهول. كان عليهم أن يختبئوا في أحراش تلك الجبال الوعرة التي كانت تسكنها الوحوش البرية، بحثاً عن الأمان بعيداً عن أعين الجلادين.
الجبال التي تضم بين ثناياها قصصاً من التشرّد والمعاناة، تحولت إلى ملاذٍ للمئات الذين نجوا من المجزرة. عاش هؤلاء في أحوال صعبة للغاية، بنوا بيوتهم من الطين، مُتحدّين الطبيعة القاسية والتحديات الاقتصادية. ووسط العوز والفقر، كانوا يُعرفون بـ"المرابعيين" بسبب اعتمادهم على الزراعة البدائية للعمل على الأراضي التي استعصت عليهم. في تلك الحقبة، كان بعض الرجال يُستخدمون لفلاحة الأرض بدلاً من الحيوانات، وكانت الزراعة تقتصر في معظمها على زراعة الدخان الأسود.
وتشير بعض الروايات إلى أن العائلات كانت تُرسل بناتها في سن السابعة للعمل كخادمات في بيروت، هرباً من واقع الحياة الصعبة في الجبال، حيث لم يكن أمامهم خيار سوى السعي وراء لقمة العيش بأي طريقة.
معاناة القرون
لم يكن هذا سوى جزء من محنة العلويين الذين عاشوا معاناة استمرت لقرون، قبل أن تتغير أحوالهم تدريجياً. ففي أواخر عام 1936، ومع تأسيس الدولة العلوية، بدأ هؤلاء يعودون تدريجياً إلى الحياة السياسية والاجتماعية، ليصبحوا جزءاً من الكيان السوري الموحد. لكن، رغم مرور السنين، بقيت تلك الذكريات ماثلة في الذاكرة الجماعية لشعبٍ عانى طويلاً.
يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، ففي الوقت الذي يمرّ فيه العلويون اليوم بمشاهد مشابهة لتلك التي شهدوها في مذبحة "التل"، يضطر العديد منهم للهروب مجدداً إلى الجبال والأحراش في محاولة للبقاء على قيد الحياة. يعيش هؤلاء في خوفٍ ورعبٍ، حيث تغيب الأمانة عن أعينهم، وتطاردهم ذكريات المجازر السابقة، بينما تسود المشهد فيديوهات لمجاهدين يردّدون أن "اللاذقية أصبحت التل مجدداً"، في إشارة إلى المجزرة الشهيرة التي أودت بحياة الآلاف قبل أكثر من خمسة قرون.
قرى مهجورة
تتزايد مشاهد القرى التي تحولت إلى مناطق مهجورة، حيث كانت بيوتها الفقيرة في الماضي مليئة بالحركة والضجيج، أما اليوم فقد أصبحت فارغة، تنانير الطين التي كانت تُستخدم لصنع الخبز لم تعد تنبعث منها رائحة التنور، وأصبحت تلك القرى شاهدة على ألم متجدد. في تلك الأماكن، لا يزال بعض السكان لم يغادروا قراهم ولم يزوروا اللاذقية المدينة أبداً، ولا يعرفون شكل الحياة المدنية بعيداً عن الفقر والعزلة.
أيديهم التي اعتادت قطف الغار وبيع الكيلو منه بمئتي ليرة سورية، تهتز من البرد والخوف مرة أخرى في الجبال التي احتضنتهم في لحظات الهروب السابقة. في تلك الأرجاء، تملأ صور الشهداء الذين سقطوا أيام النظام السابق، جدران القرى، في تذكير مؤلم بما عانوه من استغلال وانتهاكات.
وكيف لا، وقد استخدمهم "القائد الخالد" كما يسميه مؤيدوه، وقوداً لآلة الحرب التي دمرت البلاد! استثمر في الفقر واليأس، وساعد في تأسيس عصبية طائفية دعمت وجوده في السلطة، معتمداً على سرديات تاريخية قاسية جعلت من العلويين حائط صدّ في مواجهة أعدائه. وحينما كانت عائلته، التي هاجرت إلى القرداحة، تعاني من الفقر المدقع، لم يتردد في استغلال الوضع الاجتماعي لأبناء طائفته من أجل تجنيدهم في صفوفه.
استمرت هذه الديناميكية خلال حكم الابن الوريث، بشار الأسد، وأخيه ماهر، حيث تكررت ذات السياسات عبر تشكيل قوات أمنية مثل "سرايا الدفاع" في عهد الأب، ثم الفرقة الرابعة في عهد الابن. وفي ظل هذا الوضع، أصبح العلويون مرتهنين بشكل غير مباشر للفقر والخوف، ليصبحوا في النهاية وقوداً للفتن القادمة التي تعصف بالبلاد.
هنا كانت ضحكات الفقراء ورائحة خبزهم وترحيبهم بالضيوف في بيوت معدمة... هنا كانت السنابل التي أحرقها النظام البائد قبل أن تحرقها العناصر المنفلتة... هنا كانت الذكريات التي لا تموت.