طيلة الأيام الماضية، كان السوريون مرضى بالخوف! لقد مرت عليهم، منذ تاريخ 08/12/2024، ثلاثة شهور "مفترجة"، فصّلها القدر على مقاس معاناتهم طيلة 14 عاماً من المذبحة الأسدية المباشرة بحقهم، و54 سنة من الحكم الديكتاتوري عموماً.لكن المجازر التي ارتكبها مجرمون ينتمون إلى فصائل مسلحة بحق مئات الأفراد من الطائفة العلوية، على هامش هجوم منسق لفلول النظام البائد، قضت على كل الانبساط الذي كان يُرى في محيّا السوري، في بلده أو في الشتات. وعاد الشعور بالقلق ليهيمن من جهتين: الخشية من أن ينجح أزلام الأسد في استعادة موقع لهم في المشهد، والارتياع من أن يصبح القتل على الهوية ديدن بعض الجهات التي تستتر بعملها مع وزارة الدفاع في الدولة الجديدة.كلا الأمرين شرّ، والخوف الذي سجن العقول والحواس هو "ألم ناتج عن توقع الشر"، حَسَبَ أرسطو.
يمكن للمرء أن يكون شجاعاً، حتى وإن أصيب بالمرض، بل إن قصص شجاعة المرضى في مواجهة المصائب تعدّ من أروع القصص التحفيزية للآخرين. لكن الحالة التقليدية تشترط أن يعرف الإنسان ما أصابه، فيكرّس لمواجهته كل جهوده. وفي حالة السوريين، الخوف هو ألم ناتج عن مرض غير مسمى، لكنه مفهوم. ويمكن، بقليل من اللعب بالمنطق، وضع "الشر" في مكان المرض، لتصبح الحقيقة أوضح قليلاً: لقد أصيب السوريون بشرٍّ أسديٍّ مستطير، وها هم يخافون نوبة أخرى منه بعدما ظنوا أنه غادرهم إلى غير رجعة.المثقفون السوريون (مجموعة من الناشطين والناشطات ومنظمات المجتمع المدني، حَسَبَ البيان الرسمي)، الذين وقفوا قبل أيام في ساحة المرجة دعماً للضحايا في الساحل، قرروا أن يعلنوا تفاصيل خوفهم! طالبوا بألّا يُعاد الماضي القريب، وأن تقوم دولة الجميع بحماية جزء من الشعب. لكن هذا لم يكن كافياً ليفهم الآخرون، من الناشطين الذين جاؤوا ليحتجوا على الاحتجاج، المعاني التي حملتها اللافتات. فحصل شجار بين أصحاب الشعارات، وبين من يعتقدون أن الكلمات المكتوبة تتهم الدولة التي لم يروا منها ما يعيبها! أدى ذلك إلى تدافع بين المشاركين، وهروب كثير منهم، بينما وقع اشتباك بالأيدي ومطاردات، لم يوقفها سوى قيام أفراد من الأمن العام بإطلاق النار في الهواء، ما أدى إلى ارتداع المهاجمين!المثقفون، والناشطون الآخرون، كلاهما يشعر بالخوف، ويتألم مما لا يمكن توقع إن كان قد حصل فعلاً أم لا. إنه الشعور بأن ثمة من يريد الاستيلاء على الحلم الذي أنفقت الجموع عمراً بأكمله لتحقيقه، أو التعريض به.
وفي ظل الوضع الطارئ، حيث تختفي مقومات التواصل والاجتماع، وحتى الفسحات المخصصة للاحتجاج، إذ لا يمكن اعتبار ساحة المرجة مكاناً مناسباً، يمكن التوقف ملياً عند التقابل الحاصل هنا. فهو ليس أمراً عابراً، بل هو جزء مما أسست له دولة القمع المدحورة، حيث كانت الريبة بين أفراد الشعب ملمحاً عاماً، والتشكيك في نوايا الآخر سلوكاً طبيعياً، طالما أن المحاسبة كانت تقوم على افتراض أن السوري خائن للنظام البعثي كاحتمال دائم. ثم أن مشهدية الاحتجاج ذاتها يكتنفها التنميط، فالمحتج حتى وإن كان صامتاً، يُعتبر مهدداً للأمن العام، إذ يؤدي إلى إثارة الجلبة حين يأتي رجال الأمن لتفريقه، ويُشعر الناس العاديين بأن السكون الذي يرومونه ليعيشوا بلا قلق يصبح مهدداً.هل من سبيل للخروج من هذه الدوامة؟! هل يستطيع السوريون مغادرة ضفة الخوف نحو الاطمئنان بأن الماضي المزري لن يعود؟ما زالت البلاد كلها تتهيأ لتمكين مواطنيها من ممارسة حقوقهم، والوصول إلى عتبة المواطنة والتساوي في الحقوق والواجبات. وهذا كله لن يكون قابلاً للتنفيذ طالما أن الأخطار الخارجية، كاجتياحات إسرائيل والتهديدات الإيرانية، تتساوى مع الداخلية، حيث كان الوضع قبل توقيع الاتفاقيات بين الدولة و"قسد" ووجهاء السويداء، وقبل دحر الفلول في الساحل، أقرب ما يكون إلى انفجار تتشظى بسببه البلاد إلى قطع عديدة من الصعب إعادة لصق بعضها ببعض!يريد جزء من الخائفين على مستوى الشعب، من المثقفين والسياسيين والناشطين على حد سواء، تأجيل فعالياتهم، خشية أن يتسببوا في انقسامات جديدة. بينما يرى التيار المدني الديموقراطي في عموم البلاد أن من الواجب المشاركة في صقل العَلاقة بين الدولة والمجتمع، عبر جعل النشاط المستقل عنها أمراً طبيعياً لا يمكن قمعه أو الحجر عليه تحت أي ظرف. وهنا، يمكن التعويل على الخطوات التي أُعلنت رسمياً، وبدت كاستجابة مباشرة للمطالب الملحّة. ولعل التأسيس في الإعلان الدستوري، والإشارة إلى حقوق الناس في التعبير عن أنفسهم وأوضاعهم ومطالبهم، يخفف من أثر شعور الأفراد بأنهم مهددون دائماً بخسارة الانتصار الثوري على نظام البراميل الاستبدادي.يتعلم السوريون من تجاربهم كما يقال؟ وكما تفرحهم النجاحات، تحزنهم الانتكاسات، لكنهم يسارعون إلى قلب الصفحة، عسى أن تكون أيامهم المقبلة أفضل مما مضى.