"مش حنسلم مش حنبيع،مش حنوافق عالتطبيع"من الفيلم المصري السفارة بالعمارة.
روايتان: واحدة تعود للرئيس عمر كرامي وأخرى للرئيس سليم الحص رحمها الله.
في إحدى الأمسيات الرمضانية، وبعد صلاة التراويح في أحد مساجد مدينة طرابلس، دار حديث حميم بين الرئيس عمر كرامي وبيني حول مسألة احتمال الصلح مع إسرائيل. وقال لي، عندما وقّع الرئيس أمين الجميل اتفاق السابع عشر من أيار للعام 1983، زار عدد من وجهاء مدينتنا طرابلس الرئيس رشيد كرامي ليشرحوا له مدى الإنهاك الذي أصاب لبنان جراء اجتياح 1982، وضرورة التوصل إلى حلّ جذري للحروب مع إسرائيل والصراعات والنزاعات كافة. وأضاف عمر أنّ رشيدًا استمع إلى أعضاء الوفد واحدًا واحدًا، وكانوا جميعًا يحثّونه على القبول باتفاق 17 أيار والمضي فيه. فسكت الرجل برهة، ثم قال: "يا أبناء مدينتي وجلدتي، استمعت إليكم ولكم أقول، لو بقيت وحيدًا، ومضى الناس كلّهم باتفاق مع الكيان الاسرائيلي، سوف أحمل "سحّارة خضار" أضعها على ساحة التل، وأقف عليها وأهتف ضد هذا الاتفاق". والتعبير هنا طرابلسي بحت، إذ كلّما أراد طرابلسي أن يخاطب الرأي العام، يتحدّث عن وقوفه في ساحة التل، الساحة الأشرح في وسط المدينة حيث يمر أناس كثر.
الرواية الثانية على لسان الرئيس سليم الحص حين انطلقت أعمال التحضير لمؤتمر مدريد في المنطقة، وكان حافظ الأسد رئيساً لسوريا ويبدي رغبة في التفاوض باسم سوريا ولبنان ومنظمة التحرير حينها. وقد نجح في الاستحواذ على قرار لبنان من دون منظمة التحرير بقيادة ياسر عرفات "أبو عمار". وعلى هامش محاضرة في مدينة جبيل، سألت رئيس الحكومة حينها عن موقفه من مسألة التطبيع فأجابني أنّ المثل البريطاني يقول "تستطيع جر الحصان إلى بركة الماء، لكنك لا تستطيع أن تجبره على الشرب". حديث عن التطبيع في لبنان.. فأين المفر؟يأتي هذا الكلام في ظل تصاعد الحديث عن التطبيع مع إسرائيل كنتيجة طبيعية للحرب الأخيرة التي ذهب ضحيتها ما يزيد عن ستة آلاف لبناني، بينهم قادة الصف الأوّل والثاني والثالث من "حزب الله"، وعلى رأسهم أمينه العام، السيد حسن نصرالله.
فيوم الثلاثاء الواقع فيه 12 اذار، أعلنت رئاسة الحكومة الإسرائيلية في بيان، عن الاتفاق على بدء مفاوضات مع لبنان بشأن قضايا عالقة، أبرزها ترسيم الحدود البرية وملف الأسرى. وجاء هذا الإعلان عقب اجتماع عُقد في بلدة الناقورة الحدودية بمشاركة ممثلين للبنان، وإسرائيل، والولايات المتحدة، وفرنسا. اجتماع واكبه تصريح لمساعدة مبعوث الإدارة الأميركية للشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس، عن إطلاق مسار ديبلوماسي عبر مجموعات عمل ثلاث تعمل على ملفات ثلاث عالقة بين إسرائيل ولبنان، بموافقة البلدين. وفي اليوم عينه، شنّت المقاتلات الإسرائيلية ضربتَين جويتَين داخل الأراضي اللبنانية، وواكب الجيش الإسرائيلي مجموعة من مئات اليهود الحريديم في زيارة وصفت بالدينية إلى داخل لبنان لزيارة موقع يُزعم أنّه مدفن لأحد الحاخامات اليهود.
ومنذ إعلان اتفاق وقف النار في 24 تشرين الثاني الماضي، شنّ الجيش الإسرائيلي ضربات متلاحقة على ما لا يقل عن 30 هدفًا في لبنان منذ انتهاء المرحلة الأولى من الهدنة التي دامت 60 يومًا، ولم يتوقّف فيها عن التوغّل في الأراضي اللبنانية مواصلًا مسح قرى الحافة الأمامية عن الوجود ومستمرًا في عمليات الاغتيال على امتداد مساحة لبنان.
يريد الإسرائيلي جرّ لبنان إلى تطبيع معه يرتكز إلى إعادة رسم الحدود عبر تحديدها أو ترسيمها لكن الأصل الوصول إلى تطبيع والدخول في اتفاقات أبراهام، كما أعلنها ستيفن ويتكوف، موفد ترامب إلى الشرق الأوسط.
العصا هي القصف والضرب والتجويع ومنع الإعمار والأزمة المالية والمصرفية، أمّا الجزرة فهي التطبيع مع كيان امتهن الاحتلال والفصل العنصري والقتل الحرام والدمار الشمال. فأين المفر؟خطة أميركية-إسرائيلية محكمةلقد وضعت الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل خططًا محكمة للوصول إلى هذه اللحظة. وساهمت الطبقة السياسية اللبنانية في ذلك عن جهل أو عن معرفة منذ العام 2015 على الأقل، منذ انطلاق حملة "طلعت ريحتكم" تحديدًا. فقد شكّلت التظاهرات الحاشدة التي اندلعت على خلفية أزمة النفايات أوّل جرس إنذار للطبقة السياسية، إلاّ أنّها لم تلتفت إليه. ومع مرور الوقت، ساهمت هذه الطبقة في إنجاح الخطة من خلال المكابرة ودفن الرؤوس في الرمال والإمعان بالارتكاب والتقصير والفساد، في حين اغترّ "حزب الله" ودخل في مواجهة مع الناس العزل بعيد انطلاق ثورة 17 تشرين الأوّل 2019. وقد سبق ذلك، توسّع مروحة تدخلات الحزب لتصل إلى العراق وسوريا واليمن. ففي سوريا، ساهم الحزب في ارتكاب المعاصي والمجازر بالتكافل والتضامن مع نظام الأسد، فنفّر منه شريحة عريضة من المجتمعيْن اللبناني والسوري، وقد أدى هذا التدخّل العسكري منذ العام 2013 إلى كشفه بشكل كبير أمام المتابعات الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية وإحداث خروق عميقة في بنيته الأمنية والسياسية على حد سواء. كلّ هذا لا ينفي أنّ الحزب كانت له ثوابت في مقاومة إسرائيل، الكيان الغاصب والمجرم الذي أمعن بالاعتداء على لبنان وأهل جنوبه تحديدًا خلال عقود. وكانت كذلك للحزب خطايا في التدخلات الإقليمية التي انعكست عليه وعلى لبنان وتسبّبت بأضرار جسيمة في الوقت عينه.
وكي نفهم إجرام الإسرائيلي في هذه الحرب، نذكر أنّه لم يركّز جنوبًا على ضرب البنية العسكرية فحسب، بل على ضرب البيئة الشيعية برمّتها من خلال منعها من الوصول إلى مياه الليطاني، عبر ضرب القنابل العنقودية في محيط النهر، وإلحاقه أضرارًا في البنية السكنية، حيث بلغت حصة البيوت المدمّرة 67 في المئة من مجمل الأضرار، بحسب ما كشفته وزيرة البيئة تمارا الزين. وكمثال إضافي، دمّرت إسرائيل في خلال حربها الأخيرة على ‫لبنان حوالي 73 خزّانًا لتوزيع المياه المجتمعيّة في القرى والبلدات الجنوبية، فضلاً عن 73 بئر مياه بحسب نشرة صفر المتخصصة.إلى أين؟ تضغط ادارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في كلّ الاتجاهات وعلى المحاور الكونية كافة بغية فرض هيمنتها على العالم كلّه، وهذا ما سيضعها أمام ازمات كبيرة جدًا وانشغالات قادمة لا محالة. يكفي أن نجد مثلًا أنّ مبيعات "تسلا" قد انخفضت بنسبة 67 في المئة في فرنسا. والمكسيك وكندا يواجهان الضرائب بالضرائب وكذلك الصين. وأوروبا تسعى إلى لملمة جراحها من خلال محاولات إعادة التشبيك مع فرقاء آخرين كتركيا لسد فراغ الغياب الأميركي أو وهن الناتو.
من البديهي والطبيعي أن يفاوض لبنان إسرائيل حول حدوده ومياهه وأسراه، ومن الطبيعي والبديهي أن يصل إلى اتفاق حول النقاط الحدودية ولو بعد حين، ومن الطبيعي أن يكون الاستقرار على جانبي الحدود أمرًا مطلوبًا. لكن من غير الطبيعي وغير المقبول أن يبدأ البعض بالترويج لتطبيع العلاقات مع كيان قتل وجرح ما يقارب عشرين ألف مواطن لبناني، كأن شيئًا لم يكن، ومن غير الطبيعي أن يتقدّم الحديث عن التطبيع مع عدو على المصالحة الداخلية ولملمة جراح العدوان.
قد يقول قائل إنّ شروط إعادة الإعمار والمساعدات تمر بالتطبيع، لكن الجواب البديهي الوطني: السلم الأهلي ووحدة الموقف اللبناني يتقدّمان على كل شيء. والثمن الذي يمكن أن يدفعه لبنان نتيجة تسرّع -لا سمح الله- بالاندفاع صوب تطبيع مع العدو أكبر بكثير من ثمن الصبر والتفاوض وبناء حوار وطني صلب. فمن شأن تبنّي موقف مماثل أن يؤدي إلى الخروج بقرار موحّد تجاه المسألة الأكثر تعقيدًا في المنطقة، وهي كيفية البقاء والازدهار في وقت يتربّص فيه كيان استعماري وتوسعي على الحدود.