غريبٌ ذاك الشعور. هو شعور الزيارة الأولى للنبطية خصوصاً في شهر رمضان، على مسافة 70 كلم من بيروت. ترد في ذهنك ألف فكرة وفكرة. المدينة تعرف تاريخياً بزخمها التجاري، حيث كانت قوافل الأنباط (عرب من شمال شبه الجزيرة العربية) التجارية تغدو وتعود بين الداخل والساحل الجنوبي، حتى استوطنوا في مكان وأطلقوا عليه النبطية. لكن حالياً لن ترى شيئاً من تلك الملامح التاريخية، بل ما خلّفه العدوان الأخير على لبنان من دمار.فعلاً، يُطرح سؤال: ماذا سأرى وأنا لا أمتلك سوى صورة المدينة التي تعج بالعديد من المعالم الطبيعية والمواقع الأثرية، وغبشٌ يكفِّرُ هذه الصورة في بعض الأحيان بمشاهد من الأبنية المدمرة وردمٍ رأيناه على هواتفنا، حتى يؤكد لي المشهد الواقعي للدمار المتناثر على طول الطريق صحة الغبش. لكن كيف ستكون حُلة النبطية الرمضانية وسط هذا الدمار؟فانوس البهجةالمربع التجاري مدمّر. لا وجود لمربعٍ تجاري حقيقي، بل بضائع من ألبسة وأحذية ممزقة والممزوجة بالحطام والركام. وجرى تشييد فانوس حديث بارتفاع 18.25 مترًا. فعلى الرغم من آثار الحرب، أبت النبطية أن يمر شهر رمضان المبارك من دون بثّ البهجة في قلوب قاطنيها. لذا أقدمت جمعية تجار النبطية على وضع الفانوس مكان المربع التجاري، لتوصل رسالة عن صمود وعودة المنطقة إلى الحياة والنهوض من جديد. وهذا ما قاله أمين سر جمعية التجار كامل صبّاح، بإن "تشييد الفانوس هو رسالة أن الحياة مستمرة في النبطية. أما المربع التجاري والتراثي، فسوف نسعى لإعادة إعماره".النبطية أكبر من أن تكون مجرد مسكن ورزق لأبنائها. على الجهة اليمنى من الفانوس يقف صبيٌ من بلدة الخيام خلف بسطته لبيع المشروبات الرمضانية من الجلاب والليمون، كان قد اتخذ النبطية ملجأً له بعد أن تدمر منزله في العدوان الأخير. وفي شارع النادي الحسيني، يوجد سوق يُطلق عليه "سوق الخير"، يفتح أكثر من أربع مرات أسبوعيًا في شهر رمضان، مع حسومات على المنتجات الغذائية. وبين الفانوس والنادي الحسيني، يوجد "كوخ رمضون"، وهي شخصية رمضانية أطلقها النادي في العام 2015 مع شخصيات أخرى تأتي إلى "ساحة البيدر" قبل ساعة من موعد الإفطار، وسط أجواء من الفرح على أنغام "أهلاً رمضان".أمل وسط الدماريلازم الكوخ، مدفع رمضان. هو المدفع الأقدم والوحيد في الجنوب، يعود تاريخه إلى خمسينيات القرن الماضي، ويعتبر جزءًا من الفلكلور الرمضاني اليومي لأهل البلدة. هنا يصطف الأهالي والأطفال عند موعد تلاوة القرآن لمشاهدته. ومع انطلاقة كلمة "الله أكبر" يُطلق المدفع الرمضاني ويحين موعد الإفطار."بالأمل هلّيت" يا رمضان، هو الشعار الذي أطلقه النادي الحسيني على رمضان هذا العام، وذلك تعبيرًا عن الأمل الذي يحمله أهل البلدة وسط الخراب والدمار. ويقول المسؤول عن إدارة الفعاليات الرمضانية الخاصة بالنادي الحسيني مهدي صادق، إن "فكرة الأمل تنعش همم أهل البلدة للاستمرار في العيش، ورمضان هذا العام أتى بفرح أكبر وشوق أكبر نسبة لما يحمله من معاني الحياة والانسجام مع الواقع".بلحظة يعم السكون ويتسارع الغروب. ثوانٍ معدودة ونرى الليل الدامس والأعمدة الناجية من الحرب مزينة بالأضواء الرمضانية. تلك هي الأجواء الرمضانية في الجنوب، تتواجد كل عام ولا يوقف فعالياتها أي عدوان.