"على قدر أهل العزم تأتي العزائم".
في ظل تقطّع أوصال دولة الخلافة العباسية، وتلاشي سلطتها على بغداد وعلى امتداد أراضيها واستحواذ كلّ حاكم ولاية بولايته، برز أمير حلب، سيف الدولة الحمداني، كسدٍ منيع أمام غزوات البيزنطيين على بلاد الشام، حيث خاض معهم معارك شتى وانتصر. رأى المتنبي في ذاك الأمير مثالًا للشجاعة، والكرم، ونبل الأخلاق. ولمس فيه الإقدام والشهامة. فجعل منه في قصائده ذاك القائد الموعود لأمة فقدت قادتها. مناسبة هذا الكلام الدعوة التي وجهها رئيس تيار "العزم"، الرئيس نجيب ميقاتي، لنواب حاليين وسابقين ووزراء سابقين لإصدار "إعلان طرابلس" في ثاني أيام الجمعة من شهر رمضان المبارك في دارته، بحضور رئيسيْ الحكومات السابقَين فؤاد السنيورة وتمام سلام والسيدة بهية الحريري، بما تمثّل من تيار عريض هو تيار "المستقبل".
الحضور السياسي كان إلى حد بعيد مكتمل النصاب، لولا غياب النواب أشرف ريفي وفيصل كرامي وغياب نواب الطائفة العلوية الحاليين. بالشكل إذن، كان الحضور جميلًا ووازنًا ومتنوعًا يعبّر بحق عن أغلب المكونات الشمالية، خصوصاً في أقضيتها ذات الغالبية السنية. تلك الأغلبية التي لا ترغب بصدامات أهلية ولا فردية وتنشد الأمن والاستقرار وبسط الدولة سلطتها بعدما عانت من جولات عنف حوّلت المدينة إلى صندوق بريد إقليمي منذ عقود عديدة. وللمفارقة، اندلعت أقوى الجولات خلال ترؤس الرئيس نجيب ميقاتي للحكومة بين العامَين 2011-2014 وبلغت عشرين جولة بين جبل محسن وباب التبانة في ظروف مختلفة تمامًا عن الظرف المحيط بطرابلس ولبنان وسوريا والمنطقة كلّها اليوم. وهو قطعًا، أي ميقاتي، لا يتحمّل مسؤولية اندلاع تلك المواجهات، لكنه في الوقت عينه لم يستطع إيجاد الحلول لها، فاستمرت حتى رحلت حكومته وألّف تمام سلام حكومته من بعده. وهكذا، توقّفت الجولات في يوم وليلة. وخلال عهد حكومة الرئيس ميقاتي الأخيرة، تدهور الوضع الأمني في طرابلس وصار التفلّت والفوضى والتشبيح والسرقات سمة يومية من دون أن تتمكّن الحكومة ووزير داخليتها، الطرابلسي بدوره، من القيام بواجبهما بحفظ أمن المدينة وفرض هيبة الدولة فيها. فكان عهد ميقاتي الثالث في رئاسة الحكومة عهد التسيّب الأمني بامتياز في مدينته التي لم يزرها إلاّ لمامًا. تحديات أمنية مستجدة.. لبنان إلى أين؟في المقابل، وبعد سقوط 10 ضحايا أبرياء في المدينة في الأيام العشرة الأوائل من شهر رمضان، سارعت الحكومة الحالية ووزير الداخلية، العميد أحمد الحجار، إلى التحرّك فاتخذ قرار التدخّل بقوة وحزم في محاولة مشتركة مع الجيش لضبط الأمن. وظهر هذا جليًا أمام كلّ متابع إلى اليوم على الأقل.وبعد أعمال القتل المدانة في الساحل السوري، نزح المئات من أبناء الطائفة العلوية إلى شمال لبنان أكثرهم إلى عكار والبعض إلى طرابلس. كلّ المعطيات المحيطة لا تؤشّر إلى احتمال حصول صدامات واسعة في لبنان، في ظل غياب الأسد وتلاشي قدرات حلفائه شمالًا، وعدم وجود رغبة إقليمية أو دولية بإشعال فتن مذهبية تطيح باستقرار هش في المشرق العربي برمته. ولعلّ الطرف الوحيد الذي لا يريد الاستقرار لسوريا أو لبنان ولا للمشرق العربي كلّه هو إسرائيل الطامعة باستكمال مشاريعها التوسعية في الضفة وغزة وسوريا ولبنان. إلاّ أنّ داعمة إسرائيل الأولى، الولايات المتحدة الأميركية، لا تمتلك التوجه نفسه. ففي اليوم التالي لأحداث الساحل السوري المؤسفة، عملت واشنطن على توقيع اتفاق بين زعيم قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، ورئيس الجمهورية العربية السورية، أحمد الشرع. فوصل الأوّل إلى دمشق على متن طائرة أباتشي أميركية في رسالة دعم واضحة لا لبس فيها للاستقرار في سوريا، كما وأنّ اتفاق الإطار مع شخصيات مؤثّرة في السويداء فيه الكثير من اللمسات الأميركية بدوره.ماذا في مضمون "إعلان طرابلس"؟ وسط هذه الظروف، عُقد الاجتماع الكبير في دارة ميقاتي وصدر الإعلان الذي جاء عاديًا كأي إعلان يلتقي عليه ناشطون في مجتمع مدني، فراح يحدّد ثوابت ويرفعها باسم الموقعين إلى أصحاب الأمر والقرار. إعلان لا يسمن ولا يغني من جوع. وإذا كان طبيعيًا جدًا أن يوقّع الحاضرون على ثوابت عامة ومخرجات مبهمة كهذه، غير أنّ المسؤولية الحقيقية تقع على عاتق من صاغه ودعا كلّ هذه الجمهرة الوازنة للتوقيع عليه على عجل. فالإعلان يبدأ باستنكار أحداث الساحل السوري، والثناء على توجّهات الحكومة السورية وإجراءاتها، مع التشديد على جمع واحتضان مختلف مكونات سوريا الوطنية. ثم يتوجه إلى السوريين واللبنانيين لينبّههم من مغبّة وخطورة التورّط من جديد في مواجهات أهلية عنفية، ويدعو الدولة اللبنانية إلى التواصل مع الهيئات والمنظمات الدولية المعنية لمتابعة الأوضاع المستجدة في مناطق شمال لبنان الحدودية بفعل التدفق المستجد للنازحين السوريين. كما يطالب الإعلان بالتنسيق بين المنظمات الدولية المعنية مع الحكومة اللبنانية عبر أجهزتها المختصة لحلّ هذه المعضلة، وضبط المعابر، وتأهيل المعابر الشرعية، وصولًا لإعادة النازحين السوريين تباعاً إلى بلادهم بعد استقرار الأوضاع في عدد من المناطق السورية. مندرجات الإعلان إذن عامة وأدبية ولا تقدم حلًا جديًا أو تصورًا خلاقًا لمعالجة أيّ من التحديات الأمنية القديمة أو المستجدة.
أمّا في التوقيت، فقد أدرك صاحب الدعوة أنّ الوضع في سوريا، رغم هشاشته وصعوبته، قد دخل طور اللملمة الأميركية-التركية-العربية، وأنّ الظرف الموضوعي لن يسمح باندلاع دورات عنف جديدة في لبنان تحديدًا لفقدان السبب السياسي من جهة، ولعدم وجود تمويل لجولات مماثلة من جهة ثانية. وبالتالي جاءت الدعوة استعراضية أكثر ممّا هي جدية ومؤثرة.لا يفهمُ عاقلٌ الدعوةَ إلاّ كمسعى للفت الأنظار إلى صاحب الدعوة وموقع الاجتماع أكثر ممّا هي دعوة للسلم والتضامن واتخاذ القرارات الإيجابية على أمن المدينة والبلاد. ولا يفهم عاقلٌ الدعوةَ إلاّ كمحاولة للاحتماء الذاتي أكثر ممّا هي لحماية المجتمع والسلم الأهلي، فقد جاءت في ظل عهد جديد وحكومة جديدة ترفع الإصلاح شعارًا والإنقاذ هدفًا. والشعاران يصيبان الفترة الماضية من تاريخ لبنان حيث عجزت العهود السابقة والحكومات المتتالية عن الإصلاح والإنقاذ، بل ويجري تحميل مسؤولية عدم المضي في الإصلاحات بعد ثورة 17 تشرين الثاني2019 إلى شخصيات تُعدّ من أعمدة للنظام اللبناني العميق، ومنهم صاحب الدعوة نفسه الذي وقّع بالأحرف الأولى اتفاقًا مع صندوق النقد ولم تستكمل حكومته أيّ خطوة باتجاه التنفيذ أو الإصلاح.
وبالعودة إلى المتنبي وسيف الدولة وسقوط الدولة العباسية وتحلّل إمارتها ومحاولة الشاعر إضفاء صورة قائد الأمّة على أمير حلب، وهو شخصية شهمة وكريمة ونبيلة ومقاتلة ومبدئية بحسب وصف المتنبي له، يبدو لكلّ متابع أيضًا أنّ الدولة اللبنانية القديمة لم تعد قادرة على النهوض ولو أنّها قادرة على الصمود. صمود قد يدفع بعض من كانوا يشغلون المواقع إلى استنباط أنشطة وحراكات تؤكد وجودهم وتثبت قدراتهم، في محاولة للبقاء على المسرح السياسي لضمان عودتهم إلى السلطة في ظروف مختلفة.
ومن البديهي أن يقاتل المرء للحفاظ على وجوده ومصالحه بكلّ ما أوتي من قوة سواء أنجح بذلك أو فشل، وهنا أستعير من الأديب والكاتب عبد الفتاح خطاب، قصة "أبو عدنان"، حلاق بيضون الذي كان يشتهر بملاعبة أقرانه بطاولة النرد (طاولة الزهر). وكان "أبو عدنان" حين يتفوّق خصمه عليه بوضوح ويبدو وضع "دقّه" ميؤوساً منه، يُتابع اللعب بهدوء وتأنٍ، وحين يسأله أهل الحي عن سبب تمسّكه باللعب رغم خسارته الحتمية، يجيب بما ذهب مثلًا "ما برمي سيفي حتى يصير تنكة". وليس موقف "أبو عدنان" إلاّ محاولة للبقاء والصمود مهما تبدّلت الأحوال.