الحرية في أن تكون على طبيعتك، تنمية شغفك، الرقص. هذه الأشياء البسيطة قد تسبّب العديد من المشاكل لمَن يعيشون في ظلّ نظام قمعي يتوقع سلوكيات معينة من مواطنيه، ولا يتسامح على الإطلاق مع مَن يحاولون عيش حياتهم كما يحلو لهم. تارلان، معلمة الرقص السابقة وبطلة فيلم "الشاهدة"، للإيراني نادر سايفار، (تشارك كتابته مع جعفر بناهي، وعُرض لأول مرة في مهرجان البندقية السينمائي الـ81 في قسم أوريزونتي إكسترا)، تعرف شيئاً عن هذا.يروي "الشاهدة" قصة تارلان (تلعب دورها الممثلة الممتازة مريم بوباني)، معلّمة الرقص التي ناضلت دائماً من أجل حقوق زميلاتها، وتحبّ بشكل خاص تلميذتها السابقة زارا (هي أيضاً معلمة رقص) وتعتبرها ابنتها. إلا أن زارا تمرّ بوقتٍ صعب: أصبحت مشاجراتها مع زوجها أكثر تواتراً وغالباً ما يضربها، لأنه يريدها أن تتوقف عن الرقص حتى لا تفضحه. في أحد الأيام، يقتل زارا فجأة. تشهد تارلان ذلك من دون قصد. لكن مَن سيصدّقها؟ ترفض الشرطة التحقيق في الجريمة، لأن الرجل يشغل منصباً حكومياً مهمّاً.
لذلك، في "الشاهدة"، يُسرد كل شيء حصرياً من وجهة نظر البطلة. ينتقل إلينا شعور قوي بالخوف من الأماكن المغلقة والعجز بعد الدقائق القليلة الأولى. إننا، مثل تارلان، نشعر وكأننا داخل متاهة يبدو الخروج منها مستحيلاً عملياً. نعم، لأن المخرج (وجعفر بناهي معه) أراد من خلال صنع هذا الفيلم الروائي الطويل، المهم، أن يهاجم النظام في بلاده بشكل مباشر، حيث تبدو الحرية الفردية الآن مجرد ذكرى غامضة، وفي الوقت نفسه، يتم التستّر على أسوأ الجرائم عندما يرتكبها شخص مهم داخل النظام الفاسد نفسه.الديكورات الداخلية للمنازل أو السيارات غالباً ما تكون داكنة وموحشة، بالتناقض مع الألوان الزاهية لأزياء العديد من النساء اللواتي يرقصن بحرية وسعادة. ومن خلال أبواب نصف مفتوحة، يمكن للمرء أن يكتشف أكثر الأسرار رعباً. وبينما يبدو التهديد والترهيب السبيل الوحيد لإبقاء الوضع تحت السيطرة، يمكن لسمّ قوي حلّ كلّ مشكلة. أو ربما لا؟
غالبًا ما تُسلَّم الدراما الإيرانية إلى معضلات وشخصيات مليئة بالتناقضات، في عرضٍ أبدي للمواجهة بين الخير والشرّ، في مجتمع قمعي يفرض شروطاً شديدة على الأفعال الفردية. وتقدّم الدراما الإيرانية دائماً تعليقات اجتماعية حادّة، تنتهي في فعل التفكيك الأخلاقي لشخصياتها إلى عكس الطبيعة غير المتكافئة لمجتمعها. يحوي "الشاهدة" الأدوات الدرامية الموجودة عادة في الصراع الطبقي -حيث يفلت "أولئك الذين يملكون كل شيء" دائماً من العقاب- لإظهار التفاوت بين الجنسين، مع استمرار الأخلاق والقانون المتشدّدين في تهميش النساء إلى وضع كائنات مملوكة للرجال. الرجال، بدورهم، استغلالاً لقواعد ثبّتها رجال دين محافظون بقانون الله المفترض، يحدّدون قرارات حياتهن، سواء فيما يتعلّق بالزواج أو الطلاق، وماذا يفعلون بأجسادهن، وحتى ما يمكنهن أو لا يمكنهن إظهاره في الأماكن العامّة.في قلب هذا الإنتاج المشترك الألماني النمساوي التركي، مريم بوباني هي الملكة والسيدة في القوة والكاريزما بتجسيدها دور تارلان، معلّمة الرقص التي، بعد مقتل تلميذتها الحبيبة لا تهدأ حتى تكشف عن زوجها القاتل، بعد سنوات من الخلافات حول وظيفتها ودورها في الأسرة. "أريدها فقط أن تطيعني"، يقول الزوج للمعلّمة العجوز، التي سألته عن سبب تغيير رأيه على مرّ السنين، حيث كان الرقص جزءاً من حياة المرأة حين تزوّجها. كما سنرى طوال الفيلم، هذا ليس الرجل الوحيد الذي يفكّر في النساء كشيء في خدمته. خُذ ابن تارلان، الذي يحتجّ على أن مواجهة أخته لزوجها قد عرّضت صحّته المالية للخطر، في أحد تلك المشاهد التي تأخذنا إلى الشعور الطفيلي نفسه الذي شعرنا به في "إخوة ليلى" (2022، سعيد رستائي).طوال فيلم نادر سايفار، يُترك المشاهد مع شعورٍ عميق بعجز النساء، والظلم الواقع بحقّهن والإفلات من العقاب الذي يحظى به المجرمون، ما يؤدّي إلى يأسٍ من مواجهة معضلة ما إذا كان ينبغي لها أن تأخذ العدالة بين يديها أم لا. تارلان شخصية رائعة. وهي أيضاً ناشطة ومدافعة عن حقوق الراقصات في المجتمع، كما أنها متورّطة في صراعات ومواجهات لا حصر لها، لدرجة أن محاولتها لإيجاد العدالة لطالبتها السابقة تجتذب ضغوطاً من جميع الجهات، سواء من عائلتها، أو بشكلٍ غير مباشر من مالك العقار، الذي يقترح عليها ألا تقلق بشأن متأخرات الإيجار إذا كانت لطيفة معه، أو من مجموعة أتباع يتحرّكون في ظلال السلطة. المرونة والاستقلالية هما المحدّدين الأساسيين لشخصيتها، في مجتمعٍ يحصرها في الخلفية ويحيطها بقوانينه.في "الشاهدة"، أنجز نادر سايفار عملاً سينمائياً يقدّم الكثير من الغذاء للفكر. فيلمٌ واقعي للغاية، غاضب، مؤلم، ومع ذلك لا يبدو أنه يفقد الأمل أبداً في أن الأمور يمكن أن تتغيّر في المستقبل. فيلم يروي قصّة امرأة، ونساء كثيرات، يتعيّن عليهن كل يوم الكفاح بشدة (وفي كثير من الأحيان بمفردهن) من أجل الحرية أخيراً، لكي يكنّ أنفسهن ببساطة. ولكن ربما، لكي نكون سعداء، يكفي أحياناً مجرد السماح لأنفسنا بالانطلاق في رقصة تحريرية، وعدم الاهتمام بالعالم من حولنا.