أردية حريرية، رائحة عطور، إسبرسو، وسجائر... هكذا يصف معاصرو أواخر القرن العشرين كواليس مشهد الموضة في ميلان، حيث كان التدخين جزءاً من طقوس المدينة وإيقاعها.
في تلك المدّة، كانت سحب الدخان تتصاعد في عروض مهرجانات الموضة كما تحضر رموزه في الحملات الإعلانية، من بزّة Le Smoking التي قلب بها إيف سان لوران موازين الموضة عام 1966، إلى علب السجائر الفاخرة الممهورة بتوقيع غوتشي أو برادا. ومن قصور جياني فيرساتشي وحفلاته العابقة بالدخان والمجون، إلى صور كيت موس الأيقونية وهي تدخن على منصة العرض وخارجها. في إحدى هذه الصور، تجلس موس في الكواليس، نظرتها شاخصة وفي شفتيها نصف سيجارة. برقة واحكام، تمسك موس بأداة تضعها في حرجها، يخالها الناظر لوهلةٍ كأنها مسدّس، فيتضح أنها مجرد مرآة. تحيل هذه الصورة إلى لوحة رينيه ماغريت "هذا ليس غليوناً". فالمسدس ليس مسدسًا، والسيجارة ليست مجرد سيجارة.
بين سيجارة كيت موس وبدلة إيف سان لوران، يتجسّد نموذجا المرأة العصرية، اللذان استثمر بهما عالم الترفيه لأكثر من نصف قرن. فمن جهة، هناك الـfemme fatale، المرأة الغامضة والفاتنة التي تستخدم جمالها كسلاح. ومن الجهة الأخرى، سيدة الأعمال التي تزاحم الرجال في سوق العمل كما في مساحات التدخين. في كلا المشهدين، لعبت السيجارة دورًا أساسيًا في صياغة صورة المرأة العصرية، بل في رسم الهوية الجمالية لعالم الموضة ومدنه، من باريس إلى نيويورك مرورًا بميلان.
لكن مع الألفية الجديدة، تراجع التدخين في عالم الترفيه تحت ضغط الحملات الصحية والقيود الإعلانية، وصولًا إلى حظره مؤخرًا في الأماكن العامة في ميلان. فهل تفقد المدينة، والموضة عمومًا، جزءًا من هويتها مع اختفاء السيجارة من المشهد؟ وهل تختفي السيجارة حقاً أم أنها ستنسحب، كعادتها، إلى الظل، متسللة إلى زوايا أكثر سرية (كالحامامات)، كما هو الحال مع محظورات أخرى في عالم الترفيه؟أناقة باللون الأسود
يعطي كثر للسيجارة في الموضة موقع اللون الأسود. هو اللون الأكثر أناقةً وإثارةً، وفي الوقت نفسه اللون الأكثر ظلاميةً وتمرّداً. ولذلك، تجسّد السيجارة استعارةً مثالية لصناعة الأزياء التي تتكثّف فيها مفاهيم الإفراط والرذيلة واللامبالاة. هي نفسها أداة محمّلة بالسرديات والرموز، بالرغم من مخاطرها الصحية والاجتماعية، أو ربّما بفضلها. هي "احتفاء بالذوق والأناقة" يقول إيف سان لوران. لكنّها ليست أيّ أناقة، هي أناقة باللون الأسود، الذي يجمع بين المتعة والخوف. بل يبشّر بخطر الموت. فإمساك المرء بتلك العصا القاتلة بين أصابعه، ونفثه الدخان بلا اكتراث، هو إعلان للعالم بأنه عدمي، وأنه أيضاً صاحب ذوق.في كتابه "السجائر سامية"، يميّز الكاتب وأستاذ الأدب ريتشارد كلاين بين الجمال المحض وبين السمو، ذلك المفهوم الذي ينسبه إلى فعل كريهٍ كالتدخين، حيث يرى أن السمو يفترض متعة سلبية مشروطة بلحظة من الألم. كلاين، الذي كتب مؤلَّفه حبًّا في التدخين وكوسيلة للإقلاع عنه، يصف هذه العادة بأنها فعل رومنطيقي، تراجيدي، وجمالي. إنّه نوع من الاستسلام الجمالي للذّة، وهو ما يحاكي صناعة قائمة أساساً على إثارة الصدمة، والحسد، وأحياناً الرعب.
لذلك يرى كلاين في فعل التدخين انتحاراً بطيئاً وأنيقاً، يعبث مع الموت، لكنه يغازل أيضاً فكرة التسامي. يتجلّى هنا التناقض الحادّ بين وهم الصورة الجسدية المتكاملة، وبين النقص النفسي الذي يفضحه الإدمان. في هذا السياق، يعتبر كلاين التدخين وسيلةً "للإنغماس الكلّي في صورة جسدية آنية وعابرة لـ"الأنا" الموحدة". قلّة من يختبرون هذا التناقض أكثر من عارضات الأزياء، اللواتي يلاحقن صورة الجسد المثالية وفق معايير مستحيلة.بين سيجارة العارضة وسيجارة الفيلسوف
ككاتب، يشبّه كلاين إشعال السيجارة وإخمادها بقوسين يعلّقان الزمن العادي، مانحين العقل مساحة للشرود أو التركيز. كما أنه يرى في التدخين امتداداً لذائقته الجمالية، التي تشكّل هي الأخرى وسيلة مادية للتعامل مع الأسئلة الوجودية التي لا يجيب عنها الفكر. تجد هذه الفكرة صداها في إجابة الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر، عندما سُئل عن أهم ما في الحياة، فردّ بإيجاز: "لا أعلم. كل شيء. العيش، التدخين...". كذلك الأمر بالنسبة لألبير كامو، المدخّن النهم، الذي يمكن اعتبار فلسفته العبثية نتيجة لفعل التدخين نفسه. فهو تكرار لفعل عبثي ومؤلم... لكن كما يقول كامو عن سيزيف، للمرء أن يتخيل المدخّن سعيداً.
من هنا، لا يبدو مستغربًا أن تستعير صناعة الموضة من الفلاسفة الوجوديين ونجوم الروك وجيل البيتنيك إستيطيقا البرود الوجودي والميل العدمي، التي يعدّ التدخين أحد رموزها. هو النموذج الذي ينأى بنفسه عن الجمال النظيف، الصحي، والطاهر، معلناً عن موقف جمالي ووجودي في آنٍ معاً، لا يخضع للإملاءات الصحية أو الأخلاقية، ولا للخوف من زوال الجمال نفسه.وعليه، تؤدّي سيجارة الفيلسوف الوظيفة الوجودية/العدمية نفسها التي تؤديها سيجارة العارضة. هي احتجاج على رتابة الزمن الذي يجري جارفاً معه الجمال والشباب، وتوقّف مؤقت وسط عبثية الحياة. وهل هناك تجسيد أفضل للعبث من فستان يباع بمئات آلاف الدولارات ومسيرة مهنية تبلغ ذروتها في منتصف العشرينيات؟لماذا المنع؟
في العقدين الأخيرين، باتت الحملات ضد التدخين أكثر ضراوة في العديد من الدول الغربية، تحت ذرائع صحية وبيئية، مع التساؤلات حول دوافعها الحقيقية، في ظل التراخي إزاء أزمات أكثر خطورة. لذا، يضع بعض المنتقدين هذا النهج في سياق النزعة الأبوية التطهيرية التي باتت تسيطر على الثقافة الغربية، مقيّدةً الحريات الشخصية باسم الصحة العامة. أما ميلان، فقد أرجعت قرارها إلى جهود الحدّ من التلوّث.
إذا كان يمكن فهم هذا المنع من منظور ميشال فوكو كاستراتيجية بيوسياسية تهدف إلى السيطرة على المواطن من خلال جسده، ليس لحمايته بل لتشكيله وفق معايير "المواطن الصالح" الذي يمتثل لأسلوب العيش والجمال "الصحيح"، فإن جيل دولوز يتيح لنا الذهاب أبعد من ذلك. فهو يتحدث عن "مجتمعات السيطرة"، حيث لم تعد السلطة محصورة في الأطر المؤسساتية للدولة، بل أصبحت أكثر سيولةً وتغلغلًا في تفاصيل الحياة اليومية، وصولًا إلى عالم الأزياء والـsmoking areas.
أما تفسير ريتشارد كلاين، فهو الأكثر سهولةً وبلاغة. منع التدخين هو ببساطة "هجوم برجوازي صريح على المتعة نفسها".