سُجِن البشر منذ البدء، عند رسم الحدود وتوزيع السلطات. قُيِّدت حريتهم، حُبسوا مُعاقَبين لارتكابهم أفعالًا ممجوجة من قتل وسرقة واغتصاب. لكنهم سُجِنوا أيضًا لرأي قالوه، لمجرد إشارتهم لمؤخرة الإمبراطور العارية، تلك التي جَبُن معظمنا عن الاعتراف برؤيتها، فلم نشهق بالمفاجأة، لم نستهجن، ولم نسخر أيضًا. صمتنا بينما لم ينطق حقًا سوى "أطفال الحقيقة"، أولئك الثرثارين الذين فهموا هشاشة السلطات مهما بدت صلبة ومهيمنة وغير قابلة للكسر. فهموا أن في قلب الحقائق، مهما غامت و"تلغمطت"، ماسة صغيرة بألف شعاع، وأثر لا يمكن تزويره أو تبديده، حتى لو دُفِن عميقًا في جحور الأمكنة.من تلك السجون، من قهر وفجائعية الظلم، من عمق الزنازين، سطع ضوء أصابنا لسطوته بالعمى. عندما فُتحت أبواب المعتقلات في سوريا لتراها العيون والقلوب والضمائر، لم نجرؤ على النظر والتبحر في المعنى، وخِفنا الوعي. أوديب الذي بداخلنا اشتهى فقء عينيه على التعرض لفجور الحقيقة، ومثله. وكي ننجو، بدأنا تأليف الحكايات ومضاعفة أعداد الباقين على قيد الحياة، لا طمعًا في نجاتهم فحسب، بل بنجاتنا نحن، إذ لم نُرد تصديق المكابس البشرية ولا حُفَر الأسيد.ولشدة خوفنا من تراكم الأرقام والفقد، كان من الطبيعي أن نفترض وجود أقبية إضافية، وطوابق سفلية غائرة في جحيم الأرض، حيث لا يرتع سوى الشياطين وتمارس الأبالسة أعمال نجاستها كاملة. كان من الطبيعي أن نبحث عن خفاء أكبر، حيث يستتر مرتكبو المعاصي، خائفين من ضحاياهم، ولو قليلاً، خجلين من كمّ العنف ولو قليلاً أيضاً، نازلين إلى العمق، حيث العتمة، بعيدًا في جوف الأرض.ما لم يكن طبيعيًا هو المجاهرة بذلك العنف كله، الفجور، من دون وجَل أو قلق من المساءلة. ما لم يكن طبيعيًا هو الإفصاح، ولو عمرانيًا، عن ذلك العار كله، بتلك السيولة والتدفق والعلنية الفضائحية. ما كان مخيفًا هو الاعتياد على فرد قماشة المدينة كاملة، بمدارسها ومسارحها وسينماتها، ومشافيها، وتفصيلها ودَرزها وتطريزها، بترف ووفرة، بمبانٍ لم تكن سوى تجسيد كامل لمعنى الرعب، عبر تشبيك أماكننا الاعتيادية بأبنية لم يسبب المرور أمامها سوى قشعريرة جليدية جمدت الأدمغة ومنعتها من التخيل، تاركة سؤالًا معلقًا في الهواء حتى الآن: كيف استطاعت مدننا احتضان كل تلك المعتقلات كأبناء شرعيين لها؟ كيف طُبِّعت مع وجداننا، وحُمِّلت تلك المفردة العمرانية اسمًا من أسماء بلدان ومدن أثيرة؟ وكيف رُبطت تلك البشاعة بكل مألوفية في ذاكرتنا المكانية، حتى لم يعد لها أي وقع نافر أو مربك؟ فسُمِّيت فروع الأمن بفلسطين، والسجون بتدمر وصيدنايا...إلهامنا العنفي هذا استلهم تجارب حضارات ضاربة في القِدَم، لكن عندها كانت السجون مجرد أماكن عابرة — زوايا مظلمة في القلاع أو زنازين مؤقتة للمتهمين. فالرومان، بسجن "الماميرتين"، نحتوا هذه الأماكن في قلب إمبراطوريتهم، واعتبروها مجرد أقفاص ينتظر فيها المحكومون إرسالهم للإعدام. فلم تبدأ السجون في لعب دور رسمي في العمارة المدينية إلا في القرن السادس عشر، مع نشوء وتطور قيمة العمل ورأس المال.لكن السلطات في بلادنا بنت سجونًا ومعتقلات أيضاً، أرادت لفكرة المعتقل أن تحمل ثقلاً أكثر صلابة من الأبنية، حولته لفكرة ومفهوم. فالجدران التي تحبس سجين الرأي ليست مبنية من الحجر والفولاذ فقط، بل من الخوف — خوف بطرفين نقيضين: رعب أرباب السلطة ولا يتحملون المعارضين، لا لحملهم السلاح، بل لاعتناقهم وحملهم الأفكار، والأخطر، لحملهم الآراء التي بمجرد أن تُطلق لا يمكن حجزها، تتسرب من خلال الشقوق، تنتقل عبر الهمسات، وتُشعل نيرانًا في قلوب مَن يجرأون على مجرد الإصغاء لصوت آخر. في عزلتهم، يصبح هؤلاء السجناء رموزًا. أسماؤهم، التي تُهمس، تحمل ثقل المقاومة. غيابهم هو حضور أكثر أصالة من ذاك الغياب، وإمحاؤهم هو ثقب أسود في نسيج المجتمع يهدد بابتلاع ما تبقى من فكرة الوطن المضللة.ففي حكايات المدن، لطالما حملت العمارة دور الراوي الصامت لرحلة الجموع البشرية، لا في طوطميتها فحسب، ولا برفرفة الهيولى على خيالات الماء، بل بخلقها وتخليقها لواقع ملموس اسمه الأول "مدن ومدن". حضرت العمارة كبنّاء للتاريخ، أتت بروح غير غفورة ولا هيّابة، معجونة بالمستقبل ومشغولة بالغد. فلعب مَن هندسها، مَن هندس أفكار الفضاءات فيها، لعبة بيت وبيت، مساحة مبتكرة من وراء مساحة محتلة، من سجن إلى سجن يتبرعم عضوياً ويصبح معتقلاً، تُبنى حدوده ويُثبت الفضاء فتنبثق المدن مراكمة حجارتها، بيوتها، معابد آلهتها، حمّاماتها، ومسارحها. فتُخلق من دون قصد، لا لشيء إلا لتعزيز الحواس، وتفعيل دور العطش باختراع النبع....دور الحرية في اختراع السجن.للعمارة دور يعي -بلذّة مغتصب- معنى احتلال الفضاء، وخلق علاقات بمجملها انتهاكية، وربما سفاحية، أفكار تسلمها حضارة لحضارة. للعمارة حكاية مخزية أيضًا، حكاية "التقليد بمواجهة الأصل، الإلهام بمواجهة الجبن والرعب من الدخول بمغامرة العقل والمخيلة". حكاية العمارة هي سردية متراكمة، مكررة حتى الملل، حيث يُعاد إنتاج الأمكنة، فتفرّخ السجون معتقلات، تتوالد بلا انضباط ، كأنها اختبار جيني لعالم معتوه، يعيد إنتاج القهر مضاعفًا، والعنف مضاعفًا، والكراهية كذلك. يعيد إنتاج الصراخ والحكي بمئة صوت روائي، عن معارف وخبرات خُمِّرت، عُجِنَت، وصُهِرَت بنيران الزمن، وزُرعت في أرحام البلاد المغتصبة، مرة فوق مرة. معتقلاتنا، عارنا الذي نتمنى ألا نعاود التعايش معه، غُرِز في نسيج أرواحنا ومدننا من جديد، لطخات جبيننا ووصمته التي تبغي أجيالاً لتمسحها، لتغفرها. معتقلاتنا هي علاقتنا بذاكرة جمعية نخجل من تلمّسنا لها، خوفًا من تهم البلاغة وانسفاح الدموع السينتمنتالية على أرصفة مدن غريبة.