انتشر مقطع فيديو لما بات يعرف بـ"سيارات الدعوة" أمام كنيسة مار يوسف ومار الياس في منطقة الدويلعة شرقي دمشق، التي تتميز بتنوعها السكاني من مسلمين ومسيحيين.
ويظهر في المقطع الذي انتشر على نطاق واسع، شخص يعترض على وجود هذه السيارات، مؤكداً أنه مسلم لكنه غير راضٍ عن نشاطها في المنطقة، مشدداً على أن السكان، بمختلف انتماءاتهم، يعرفون دينهم ولا يحتاجون لمن يبشرهم بأي شيء، وبأنه ليس من حقهم عرض الدين بهذه الطريقة. كما يظهر شخص آخر في المقطع يقول: "هذا الشاب مسلم، وأنا مسيحي، ولا نريد الخروج عن ديننا!". فيما يوثق الفيديو أيضاً حالة من التدافع تنتهي بمغادرة رجال الدعوة المكان.
وبعد انتشار المقطع، تداولت صفحة تحمل اسم "قيادة العمليات العسكرية" منشوراً حول الحادثة، مشيرةً إلى أن سيارات الأمن في طريقها إلى "تأديب" مَن طردوا رجال الدعوة. لكن سرعان ما قامت الصفحة بحذف المنشور من دون تقديم أي توضيحات.
وأثار انتشار المقطع نقاشات واسعة، حيث اعتبر معلقون أن استمرار تجوّل "سيارات الدعوة" في شوارع دمشق وريفها بمكبرات الصوت، خصوصاً في الأحياء ذات الغالبية المسيحية، يشكل استفزازاً واضحاً. ووصف البعض هذه الممارسات بـ"المهزلة"، محذرين من أن استمرارها سيؤدي إلى تصاعد الغضب الشعبي، مؤكدين أن الناس بدأوا يفقدون صبرهم. كما تساءل آخرون عن سبب التبشير بالإسلام بهذه الطريقة، ولماذا يتم التعامل معهم وكأنهم "كفار" بحاجة إلى الهِداية. في المقابل، أشار آخرون إلى أن البلاد تعاني انقسامات عميقة وأزمة اقتصادية خانقة، وأن مثل هذه النشاطات لن تؤدي إلا إلى زيادة الاحتقان والغضب بين الناس.
وكتب أحد المعلقين أن هذا الفيديو يحمل رسالة واضحة برفض هذه الممارسات من مختلف الطوائف المسلمة، وتحديداً من أبناء الطائفة السنّية، مؤكداً أهمية السلم الأهلي واحترام تقاليد العيش المشترك التي نشأ عليها السوريون بمختلف انتماءاتهم الدينية.
وقالت إحدى المعلّقات إن السوريين لا يعرفون بعضهم البعض جيداً، لأنهم عاشوا لفترات طويلة في عزلة تامة عن بعضهم البعض. كما أشادت بموقف العديد من المسلمين الرافضين لهذه الممارسات، معتبرةً أنه يعكس التمسك بقيم التعايش والاحترام المتبادل بين مختلف مكونات المجتمع.
في المقابل، حاول بعض المعلقين تبرير انتشار "سيارات الدعوة" باعتباره حقاً ضمن حرية التبشير بالأديان، مشيرين إلى أن هذه الظاهرة منتشرة في العديد من دول العالم المتحضر. إلا أن الجدل لم يتوقف هنا، حيث علّقت صفحات مهتمة بالشأن السوري قائلة: "نتمنى أن يكون لدينا ولو ربع الرخاء الاقتصادي والاستقرار والتعايش الذي تنعم به دول العالم المتحضر، وعندها لا مانع من نشر الدعوة". كما وصفوا المقارنات بين سوريا وألمانيا بغير المنطقية في الوقت الحالي، مشيرين إلى أن سوريا ما زالت تعاني عدم الاستقرار، ما يجعل مثل هذه الممارسات سبباً إضافياً للتوتر بدلاً من تعزيز التعايش.
وهذه ليست المرة الأولى التي تنتشر فيها "سيارات الدعوة" في دمشق، فقد سبق أن وثّقت مقاطع فيديو مماثلة نشاطها في أحياء باب شرقي وباب توما ذات الغالبية المسيحية، ما أثار حينها جدلاً واسعاً واستنكاراً من مختلف الطوائف، خصوصاً بسبب استهدافها المتكرر لهذه المناطق. وطالب العديد من الناشطين السلطات بالتدخل لوقف هذه الممارسات، إلا أن استمرارها، رغم الاعتراضات، دفع البعض إلى القول إن السلطات في دمشق تغض الطرف عنها، إن لم تكن راضية عنها بشكل غير معلن.
ورغم الاستنكار الواسع لهذه الظاهرة، التي بدأت بالظهور بعد سقوط نظام الأسد وسيطرة قوات المعارضة بقيادة "هيئة تحرير الشام" على دمشق، فإن الإدارة الجديدة ووزارة الداخلية لم تستجيبا حتى الآن لدعوات وقفها. كما لم يصدر أي بيان رسمي يوضح موقفها من انتشار هذه الأنشطة أو يحدد آلية عملها. وتخضع أنشطة التبشير في معظم الدول الأوروبية، لقوانين واضحة، حيث يطلب من الجهات الداعية الحصول على تراخيص رسمية، ولا يسمح للأفراد بممارسة التبشير بشكل فردي. بدلاً من ذلك، تعمل هذه الأنشطة من خلال منظمات تبشيرية وخيرية تقدم خدمات اجتماعية أو إنسانية إلى جانب الدعوة الدينية، مما يساهم في جذب الناس وتعريفهم بالدين بطريقة غير مباشرة. وتنظم المؤسسات التبشيرية عملها ضمن مكاتب أو أماكن محددة، ولا يسمح لها بالتجول في الشوارع بمكبرات الصوت أو باستخدام وسائل دعائية قد تُعتبر تدخلاً في الحياة العامة أو استفزازاً لمجتمعات متعددة الأديان. أما ما يجري في دمشق، فيراه كثيرون أقرب إلى محاولة استفزازية منه إلى نشاط دعوي حقيقي، معتبرين أن هذه الأساليب تنفّر الناس من الدين بدلاً من تقريبهم منه، وفقاً لتعليقات العديد من المراقبين والمعلقين.