يستعيد لبنان مشهدًا انتخابيًا طالَ غِيابه قسريًّا لثماني سنوات. إذ عادت الانتخابات البلديّة والاختيارية لتطلّ على المشهد السياسيّ في البلاد، وسطَ شَلَلٍ مؤسَّسيٍّ وانهيارٍ لوجستيٍّ وأمنيٍّ لا تزال تداعياته مستمرةً، رغم نافذة الأمل الّتي فُتحت مع "العهد الجديد"، في استحقاقٍ سياسيّ محليّ لا يمكن اعتباره سوى اختبارٍ حقيقيّ لقدرة البلاد على استعادة شيءٍ من الحياة الديمقراطيّة المفقودة.
خلال السّنوات الماضية، جرى التمديد للمجالس البلديّة، تشريعيًّا (رغم كل التشكيك بدستوريّة الجلسات الّتي جرى خلالها التمديد)، ثلاث مرات، تحت ذرائع شتّى، منها غياب الاعتمادات الماليّة، وتردّي الأوضاع الأمنيّة، المواجهات جنوبًا، والتهديدات الإسرائيليّة المستمرة. وبقيت البلاد في وضع شلّلٍ محليّ، وغابت مع الانتخابات آخر مظاهر الديمقراطيّة المحلية عن مشهدٍ لبنانيّ دائم الاضطراب.اليوم، وبعد إعلان وزارة الداخليّة والبلديات رسميًّا عن مواعيد إجراء الانتخابات على أربع مراحل، بدءًا من الرابع من أيار وحتى الخامس والعشرين منه، تتحول معها أنظار السّياسيين والناخبين إلى بيروت، العاصمة الّتي تختصر أزمات لبنان، وتحمل انتخاباتُها رمزيّة خاصّة، باعتبارها المرآة التي تعكس الصراعات السّياسيّة والطائفيّة المعقّدة في البلاد.معركة بيروت الانتخابيّةوبيروت الّتي تحتضن نحو نصف مليون ناخب يتوزعون على 12 حيًّا، ستشهد انتخاب 24 عضوًا في مجلسها البلديّ، ضمن تركيبة طائفيّة دقيقة: 8 سنّة، 3 شيعة، درزيّ واحد، 4 روم أرثوذكس، 2 موارنة، 2 أرمن أرثوذكس، روم كاثوليك، أرمن كاثوليك، أقليات، وإنجيلي واحد. وهذه التركيبة الدقيقة تجعل من انتخابات العاصمة تحدّيًا حقيقيًا للقوى السّياسيّة الكبرى، كما للقوى التغييريّة الّتي برزت خلال الانتخابات النيابيّة الأخيرة. وما يرفع من حرارة المشهد السّياسيّ اليوم، هو ما تعيشه كواليس العاصمة من اتصالات، لضمان استمرار لعبة التوازنات الطائفيّة والسّياسيّة، في مقابل تصاعد أصوات التغييريين الرافضين لإعادة إنتاج الطبقة الحاكمة نفسها.
النائبة بولا يعقوبيان كانت واضحة في تشخيص هذا الواقع، حين اعتبرت في حديثها إلى "المدن" أنّ القوى السّياسيّة التقليديّة تمارس لعبتها القديمة: "يتظاهرون بالاختلاف علنًا، لكن سرعان ما يجلسون معًا خلف الكواليس، ليتقاسموا المناصب والمشاريع. إنها طريقة معروفة للسيطرة على بلدية العاصمة من دون تحقيق أيّ إنجاز حقيقي. فالتذرّع بالتوازن الطائفي بات مجرد وسيلة لجذب الناخبين وتضليلهم". وتتابع يعقوبيان حديثها، معتبرةً أنّ القوى التقليديّة تحاول أيضًا تحميل التغييريين مسؤولية أيّ خلل قد يحدث في التمثيل الطائفي أو في أداء البلدية: "المشكلة ليست في قوى التغيير وإن لم تكن مثالية، بل في الاستمرار بتكرار التجارب ذاتها التي أوصلتنا إلى هذا الانهيار". (لمتابعة مقابلة يعقوبيان كاملةً مع "المدن": يوتيوب).من جهته، يذهب النائب إبراهيم منيمنة، إلى ما هو أبعد من الأزمة السّياسيّة وتحديدًا إلى الجذور المؤسّساتية، معتبرًا أن المشكلة الأساسيّة في بلدية بيروت هي في تركيبتها القانونيّة والإداريّة، إذ إنّ المجلس البلديّ في بيروت، بعكس سائر المدن اللّبنانيّة، لا يمتلك الصلاحيات التنفيذية التي تذهب لصالح المحافظ المعيّن مركزيًّا، ما يجعل من المحاسبة الشعبية للبلدية أمرًا عبثيًا.
ويضيف منيمنة في حديثه إلى "المدن" قائلاً إنّ "المطلوب هو حوكمة جديدة تعطي المجلس البلديّ القدرة على تنفيذ قراراته وتحاسب أعضاءه بشكلٍ مباشر. وإن لم يكن تعديل القانون ممكنًا حاليًّا، فعلى الأقلّ يجب أن تكون اللوائح الانتخابيّة منسجمة في برامجها، على نحو تستطيع الضغط على المحافظ لتحقيق أهداف واضحة ومحدّدة". مؤكدًا أنّه: "إذا أردنا مواصلة العمل بالقانون الحالي، فلا بدّ من برنامج عمل واضح تُجرى على أساسه الانتخابات البلديّة، بما يضمن الحدّ الأدنى من التجانس في المجلس. وعندئذٍ، يستطيع هذا الفريق المتجانس الضغط لتنفيذ قراراته بالتعاون مع المحافظ. أمّا في ما يتعلّق بالمناصفة، فثمّة تخوّف قد يكون مبالغًا فيه، إذ أثبتت التجارب السّابقة التزام الناخبين بهذا المبدأ وعدم اللجوء إلى تشطيب فعليّ. ومع ذلك، هناك اقتراحاتٌ لتعديلٍ بسيط في القانون يحدّ من إمكانيّة الإخلال بالمناصفة، وهو أمرٌ قابل للدرس والتوافق".
أمّا على صعيد القوى المعارضة، فيُشير منيمنة إلى أنّه "بعد انتخاب الرئيس جوزاف عون وتولّي نواف سلام رئاسة الحكومة، اختلطت الأوراقُ كليًّا، والمشهد في طور إعادة التكوين. لذا، قد تكون الانتخابات البلديّة اختبارًا حقيقيًّا لمعرفة القوى المتجانسة على برنامجٍ سياسيّ، وما إذا كانت تحالفاتها ستتشكل بطريقة جديدة. ونحن منفتحون على إمكان استقطاب أيّ قوّة سياسيّة تلتزم برنامجنا الإصلاحيّ للمدينة". (لمتابعة مقابلة منيمنة كاملةً مع "المدن": يوتيوب).قوى السّلطة: بين الخلافات والتوافقاتفي مقابل ذلك، لم يحسم "حزب الله" و"حركة أمل" موقفهما بعد، في حين ربط "تيار المستقبل" قراره بوضوح المناصفة الطائفيّة استمرارًا لنهج الرئيسين رفيق وسعد الحريري. في الوقت نفسه، تكثّف الأحزاب المسيحية جهودها للحفاظ على التوازن داخل المجلس البلديّ، في ظلّ مخاوف جديّة من اختلال التمثيل، خصوصًا بعد تراجع نفوذ "التيار الأزرق" وصعود القوى التغييريّة.
"القوّات اللّبنانيّة"، من جهتها، تعمل بوضوح نحو تحالف واسع يضمن ما تسميه "المناصفة وعدالة التمثيل". وتقول مصادرها لـ "المدن" إنّ "بيروت، كعاصمة للبنان، تحتاج إلى تجاوز الحسابات السّياسيةّ الصغيرة لتحقيق توافق أوسع، مؤكدةً أن النقاش مع مختلف الأطراف، بما فيهم النواب التغييريون، مستمرّ لضمان تمثيل حقيقيّ يعكس هوية العاصمة".
وتُشير المصادر: "نقوم حاليًا باتصالات مع الأحزاب والعائلات البيروتيّة، فبيروت هي العاصمة، مما يحتم أن تكون المعركة فيها بعيدة عن التفاصيل الضيقة والحسابات الانتخابيّة والسّياسيّة المحدودة. هذا هو الخيار الذي نعمل لأجله. فمن الضروريّ أنّ تتمثل كافة العائلات البيروتيّة وجميع مكونات المدينة في المجلس البلدي ضمن القانون الحالي". وتُضيف: "فكرة تعديل الدوائر هي واحدة من الأفكار الّتي نناقشها مع النواب في بيروت الثانية، لضمان تحقيق المبدأين الأساسيين: المناصفة وعدالة التمثيل. إذ لا نريد مناصفة شكليّة فقط تأتي بأشخاص لا يمثلون مكوّنات بيروت بشكلٍ حقيقيّ، بل نسعى لتحقيق مناصفة فعلية تعبّر عن عدالة التمثيل. فإذا لم تتحقق هذه المناصفة، فإننا بذلك نكون قد خالفنا العرف القائم في بيروت".
أما عن إمكانية عقد تحالفات مع قوى سياسيّة أخرى، مثل" التيار الوطنيّ الحرّ" أو المجموعات التغييريّة، فتؤكد المصادر إلى أنّهم على تواصل مستمر مع مختلف الفرقاء السّياسيين في المدينة، لأن المعركة في بيروت ذات طابع إنمائيّ وعائليّ أكثر منه سياسي.التقسيم... حلٌّ أم شرذمة؟لكن، وسط هذا الحرص المعلن على الوحدة والتوافق، لا تزال فكرة تقسيم بلدية بيروت إلى بلديتين منفصلتين -بين شرق بيروت وغربها- مطروحة بقوة، خصوصًا من قِبل الأحزاب المسيحيّة، الّتي تعتبر التقسيم ضمانة حقيقية لتمثيلها وإنمائها. هذا الطرح ليس جديدًا، لكنه اليوم يعود بزخم أكبر، مع تراجع القوة التقليديّة لتيار المستقبل، الذي طالما لعب دورًا في ضمان المناصفة منذ عهد رفيق الحريري. وفي انتخابات 2016، تحدّث رئيس حزب "القوات اللّبنانيّة" سمير جعجع عن أن تلك الانتخابات ستكون الأخيرة وفق الصيغة الحاليّة، وتبنّى رئيس حزب الكتائب سامي الجميل موقفًا مشابهًا. واليوم، تتجدّد هذه المواقف، وسط قلقٍ مسيحيّ متصاعد من ضياع المناصفة وتراجع الحضور المسيحيّ، خصوصًا في ظل تغيّر الخريطة السّياسيّة ودخول المستقلين والتغييريين على الخط.
مع كل هذا الصراع السّياسيّ المعقّد، يبدو واضحًا أن انتخابات بيروت البلدية المقبلة لن تكون مجرد محطة محليّة بحتّة، بل ستكون اختبارًا جدّيًا لمستقبل الحياة السّياسيّة اللّبنانيّة، وربّما لرسم معالم المرحلة المقبلة.