عند المحترفين و المحترمين من أهل السياسة، فإن البراغماتية أو الروح العملية الخالصة، لا يمكنها تجاهل بعض المبادئ وبعض القيم، بل إن أغلب المصالح لا يمكن صيانتها أو تحقيقها إن غابت المبادئ أو احتجبت عن قصد.
غادرت الولايات المتحدة كهوف عزلة اختيارية فرضتها على نفسها حتى مطلع القرن العشرين، بعدما أجبرتها مجريات الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) على الانخراط في الحرب ضد ألمانيا، لكنها أبدت حرصاً قرب نهاية الحرب، على إقرار جملة مبادئ، أعلنها آنذاك الرئيس وودرو ويلسون، من على منبر الكونغرس، بعضها عملي أو إجرائي يتناول ما يستوجبه إعلان انتهاء الحرب من إجراءات وضمانات وتدابير، وبعضها مبدئي مثل التعايش السلمي، وحق الشعوب في تقرير المصير، والمساواة بين الدول المتعاونة في حفظ السلام، وخفض التسلّح إلى الحد اللازم فقط لحفظ أمن كل دولة.
كانت الولايات المتحدة قد ذاقت ثمار الانتصار في الحرب العالمية الأولى، و أدركت ـنه لا عودة إلى العزلة خلف المحيطين الأطلسي والهادئ، وأن الفرصة سانحة أمامها لإقامة نظام دولي تتزعمه بنفسها.
مبادئ ويلسون الأربعة عشر، ساهمت في بلورة رؤية واشنطن لعالم مثالي، لكنه خلف لافتات المثالية، وتحت عناوينها، راح يكرس سياسة خارجية أميركية، موغلة في البراغماتية، التي بلغت في إحدى ذراها، قرب انتهاء الحرب العالمية الثانية، حد الاستيلاء على احتياطي ألمانيا من الذهب والعملات، والذي كان هتلر قد خبأه في أحد مناجم الذهب (في قرية ميركرز) فضلاً عن أموال، وأعمال فنية عالمية نادرة، بلغ وزنها وحدها أكثر من أربعمئة طن، جرى شحن معظمها لاحقاً إلى الولايات المتحدة، وهو مشهد تكرر بعدها بنحو ستين عاماً، عقب الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، ما يشير إلى ثبات المنهج واستمراريته.
وقتها، كان الخطاب الأميركي العام في عهد الرئيس ويلسون ، يتحدث عن تحرير شعوب مقهورة، والدفاع عن حقها في تقرير مصيرها، وكذلك عن المساواة في الحقوق والواجبات، ومكافحة التمييز بكافة أشكاله.
طول الوقت كانت السياسة الخارجية الأميركية حريصة على مواراة سوءات سياستها، تحت العناوين المضللة، والبراقة، حدث هذا طوال أكثر من ثمانين عاماً، منذ ألقت الولايات المتحدة أول قنبلتين نوويتين، فوق هيروشيما ونغازاكي في اليابان قبل أسابيع من إسدال الستار على الحرب العالمية الثانية.
لكن ما جرى ويجري منذ تولى الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب مهام الرئاسة (الولاية الثانية) في العشرين من كانون الثاني/يناير الماضي، يعكس روحاً جديدة في مركز قيادة العالم بالولايات المتحدة.
فالرئيس لم يعد مشغولاً بانتقاء عناوين جذابة، وأخلاقية لسياسته. هو يتحدث علناً وبدون مواراة، عن وضع اليد على قناة بنما (هكذا…نأخذها فنحن من حفرها)!! ثم إنه يتحدث علناً وبدون إستئذان الشعب الكندي، عن إلحاق كندا بالولايات المتحدة، لتكون الولاية رقم 51، وكذلك عن ضم غرينلاند (مليوني كيلومتر مربع) التابعة للدنمارك، إلى السيادة الأميركية، وحين يتعلق الأمر بأوكرانيا يتحدث ترامب عن حاجة بلاده إلى استعادة ما قدمته لأوكرانيا من أسلحة ومعدات وأموال قدرها هو بأنها (350) مليار دولار، سيستعيدها عبر توقيع اتفاق مع أوكرانيا يضع بمقتضاه يد أميركا على ما في جوف أوكرانيا من معادن ثمينة.
أوكرانيا ردت على طروحات ترامب، مؤكدة أن تقديراته مبالغ فيها بشدة، وأن ما حصلت عليه اوكرانيا من أموال، و سلاح وعتاد أميركي، لا يزيد على مئة مليار دولار، ومع ذلك فقد جرى إكراه الرئيس الأوكراني زيلنسكي على القبول علناً وعبر بيان اعتذار قسري، بتوقيع اتفاق المعادن إياه.
ما يمكن أن نسميه الآن مبدأ ترامب، هو أيضاً ما حاول ترامب تجربته في غزة، بإعلانه أنه يريد الاستيلاء على غزة، وأن لديه تصوراً تتحول غزة بموجبه الى ريفييرا (على نسق الريفييرا الفرنسية منتجعاً لأثرياء العالم)، وأنه لا يمكن تحقيق هذا التصور قبل تهجير أكثر من مليونين من فلسطيني غزة إلى الجوار العربي في مصر، أو إلى مناطق يمكن تدبيرها لاستقبال أهالي غزة في إندونيسيا أو سوريا أو العراق أو في القرن الأفريقي. هكذا بات الحديث طبيعياً، عن التهجير القسري، أو عن التهجير بعد تطويعه، حتى لا يصبح قسرياً تأباه القوانين الدولية، وبدلاً من البحث عن حل للقضية الفلسطينية، انشغلت واشنطن بالبحث عن وطن بديل لفلسطينيي غزة، يتيح لترامب تحقيق رؤيته كمطور عقاري ألهب خياله الإستثماري شواطئ غزة، ليحولها الى منتجع أميركي شرقي المتوسط يقصده أثرى أثرياء العالم، وليذهب شعب غزة إلى شتات جديد في مصر والاردن و السعودية، فإن لم يجد فقد يكون البديل في شرق أفريقيا، أو القرن الأفريقي.
الرفض (المصري-الأردني-العربي-الإسلامي-الدولي) لخطة ترامب لتهجير الفلسطينيين من غزة، فضح الخطة، وجرّدها من أي غطاء سياسي أو دبلوماسي أو أخلاقي، ما دفع الرجل إلى التراجع خطوة إلى الوراء، وترك فسحة زمن ضئيلة جداً أمام من يرفضون خطة التهجير.
استئناف إسرائيل للحرب ضد غزة، لقي تأييداً أميركياً أعمى بدون أدنى تحفظات، ما يشير إلى أن ثمة إصرار على المضي قدماً في خطط التهجير، بعدما شكلت إسرائيل جهازاً لديها يعنى بتهجير الفلسطينيين من غزة إلى أماكن تقبلهم خارج الأراضي الفلسطينية.
يراهن ترامب بما تراكم لدى الولايات المتحدة من مكونات القوة على مدى المئة عام الأخيرة، لتغيير خارطة العالم، وتكريس حقائق جديدة، بأقل تكلفة ممكنة، وبأدنى استخدام للقوة، مستعيناً بقدرته على مفاجأة العالم كله، بأفكاره، وتصوراته، فهو يريد السيطرة الكاملة على قارة أميركا الشمالية كلها، وهو يراهن على حالة استرخاء مزمن تعيشها أوروبا منذ استسهلت تسليم المسؤليات الدفاعية والأمنية للولايات المتحدة.
ترامب أيقظ كل عفاريت القلق لدى أوروبا الرخوة، بعدما راح يفاوض روسيا وحده بشأن مستقبل أوكرانيا، دون التفات لمصالح ومخاوف وهواجس أوروبا، بل إنه تخلى عن التزامات أميركية تجاه حلفائها الأوروبيين، مطالباً من يريد أن تدافع أميركا عنه، بأن يسدد الثمن أموالاً أو معادن أو أراضٍ.
تتضاعف فواتير التصدي للمخاطر، كلما تضاعفت تلك المخاطر، وهذا المبدأ ربما يقدم تفسيراً منطقياً لسلوك إدارة ترامب إزاء أغلب القضايا الدولية، من أول حروب الشرق الأوسط، وحتى الحرب في أوكرانيا، وبينما تبدو أميركا منخرطة في عملية عسكرية ممتدة ضد الحوثيين في اليمن، بهدف قطع آخر أذرع إيران في الشرق الاوسط، وتأمين حرية الملاحة في البحر الأحمر.
حرب ترامب ضد الحوثيين هي في أعلى تجلياتها، حرب للسيطرةعلى الممرات المائية الحيوية ومنها البحر الأحمر، لكن التسويق السياسي الأميركي للحرب، يسمح بتصويرها باعتبارها حرب يستفيد منها الجميع، بمن فيهم الصين المنافس التجاري الرئيسي للولايات المتحدة، وروسيا، ومصر التي تضررت بالفعل بعدما تراجعت عوائدها المالية من قناة السويس، والدول المشاطئة للبحر الأحمر، وهكذا...
خطط ترامب، تتيح للولايات المتحدة، فرصاً أفضل للانفراد بزعامة نظام دولي أحادي القطب، خلال القرن الحالي على الأقل. فهو-حتى الان- القطب الأوحد الذي يدير التفاعلات في الشرق الأوسط، ويضبطها وفق مقاييسه وحساباته، وهو حتى الآن القطب الرئيسي الذي يدير تفاعلات الحرب في أوكرانيا، وهو حتى الآن القطب الرئيسي في إدارة وضبط التفاعلات في الشرق الأقصى، وعلى كل من له مصلحة في الحروب أو في التسويات، أن يتفاوض مع الولايات المتحدة، التي لا يمانع رئيسها الحالي في التدخل المدفوع بمقابل، بعد الحصول على تعهدات من الأطراف المعنية بتسديد المقابل (أرضاً أو معادن أو أموال واستثمارات).