في العام 2003، وبعد دخول الجيش الأميركي إلى بغداد وإطاحة نظام صدام حسين، نشرت جريدة "ديلي تلغراف" البريطانية تقريراً عن مواطن عراقي رفض الالتحاق بالخدمة العسكرية الإجبارية أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وقرر الاختباء من ملاحقة المخابرات العراقية، في حفرة أشبه بالقبر (لا يتعدى عرضها التسعين سنتيمتراً وارتفاعها متراً ونصف المتر) أسفل مطبخ منزل أسرته، جنوبي بغداد. وظل رهين غرفته السرّية هذه أكثر من عشرين عاماً، ولم يخرج من مخبئه منذ دخوله إلا عندما سمع نبأ إطاحة صدام حسين عبر خبر جهاز راديو كان يؤنسه، وينقل له ما يحدث في الخارج!

القصة الغريبة لهذا المواطن تكررت مرة أخرى عندما أعلن مواطن آخر أنه قضى عقدين في قبو ضيق، هرباً من حكم بالإعدام صدر بحقه بسبب انتسابه إلى "حزب الدعوة" المحظور في ذلك الوقت.
أما في سوريا الأسدية، فقد نشر صانع المحتوى وارف كاتبي، قبل أيام، تقريراً عن زيارته لأبي زكور اللاذقاني، الذي قرر في العام 2012 وبعدما خاض تجربة الاعتقال مرة واحدة، أن يختفي عن عيون مخبري النظام، فلم ينبش الأرض ليصنع حفرة، بل بنى حائطاً في إحدى غرف منزله، صانعاً بذلك غرفة طولانية ضيقة، استطاع أن يختفي فيها 13 عاماً، ولم يخرج إلا حين عرف بأن بشار الأسد قد هرب من البلاد!(أبو زكور ووارف كاتبي)
هؤلاء المختفون نجوا من الوقوع في براثن مجرمي "البعث" في سوريا والعراق بمعونة شخص أو شخصين في كل تجربة، على النقيض من مصير آنا فرانك، الفتاة الهولندية اليهودية التي اختبأت برفقة آخرين من عائلتها في ملحق سري لأحد الأبنية (Achterhuis) لمدة عامين تقريباً (من العام 1942 حتى 4 آب 1944) إلى أن تم اكتشافهم واعتقالهم من قبل الغستابو (الشرطة السرية النازية)، بعد بلاغ مجهول عن يهود مختبئين! ونُقلوا إلى معسكرات الاعتقال. فاقتيدت آن وأختها مارغو إلى معسكر أوشفيتز، ثم إلى بيرغن-بيلسن، حيث توفيتا بسبب مرض التيفوس في أوائل 1945، قبل وقت قصير من تحرير المعسكر على أيدي القوات البريطانية.
لم يكتب أحد من المختفين في سوريا والعراق مذكرات أو يوميات الاختباء تحت سطوة الرعب، لكن آن فرانك دوّنت يومياتها التي نشرها والدها أوتو فرانك (الناجي الوحيد من العائلة) لاحقاً بعنوان "مذكرات فتاة صغيرة"، وأصبحت من أشهر الكتب في العالم، وترجمت إلى أكثر من 70 لغة.
حياة سرية من هذا النوع، أشبه بالمقامرة، لكن أصحابها لا يملكون ما يرمونه على الطاولة سوى مصيرهم! فإذا كسبوا قليلاً من الحظ، قدّر لهم أن يخرجوا ليحكوا عما عاشوه، وإذا فشلوا تحولوا إلى الموت المجهول، إذ ليس كل من تم القبض عليهم في تجربة الهروب الخطرة، استطاعوا أن يخبروا العالم بما جرى.
أعرف أعضاء في أحزاب سياسية سورية عاشوا حياة التخفي بعيداً من بيوتهم ومدنهم، هرباً من الاعتقال لسنوات طوال. بعضهم اعتُقل بسبب وشاية، وآخرون وقعوا صدفة في الأسر، وبعض قليل استمر في هروبه حتى تمت تسوية أوضاعه في ظروف سابقة مرت بها البلاد قبل ثورة 2011، ثم عاودوا النشاط بعدها، واختفوا هذه المرة بعدما اعتُقلوا ولم ينجوا! أتذكر هنا السياسيين عبد العزيز الخير من حزب العمل الشيوعي، وكذلك فائق المير عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الديموقراطي، وخلفهما تمرّ عشرات وربما مئات الصور لأشخاص مثلهما، لا يعرف الناس عنهم شيئاً، ويحتاجون إلى متطوع ينقب في التجويف الزمني والحياتي الذي عاشوا فيه، قبل أن تتلقفهم مخالب الأذى.(فائق المير)
قبل فترة وجيزة، أطلق الناشط عامر مطر، متحفاً عمل عليه لسنوات حمل اسم "متحف سجون داعش" وجاء في الشرح أنه متحف رقمي تفاعلي، يؤرخ ويوثق جرائم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ويقدم معارض تفاعلية، وجولات افتراضية، وتحقيقات، وشهادات، في محاولة لكشف مصير المغيبين قسراً وتكريم الضحايا ودعم جهود تحقيق العدالة.
والآن، وبعد سقوط نظام الإبادة الأسدي، يحتاج السوريون لمتاحف شتى، تبدأ بإطار يتوازى مع صنيع عامر مطر، ليكون متحفاً عن سجون الأسدية، يحكي عن طقوس الإبادات التي تعرض لها عموم السوريين، ويفند تفاصيل كثيرة. ففي حياة كابوسية كهذه، هل ثمة شيء يمكن أن تفلته من الذاكرة، وتصفه بالطبيعي؟ (وقفة تضامنية في أوروبا)
في البيئة الدموية، حتى الهواء يصبح اكتنازاً للأمل في أن تعيش دقائق أو ساعات مقبلة، حتى أنك حين تتذكر ما مر بك، يتراءى لك بأنك تحتاج لتذكر تبدلات ألوان أنفاسك، فقد ساعدتك لتعيش، بينما اضمحل الأمل عند آخرين ومضوا إلى مجهولهم.
أحد المتاحف المحتملة هو ما يرتبط بالهروب من الموت، فكما ثمة غرفة سرية في أسفل مطبخ العائلة أو ما يشبهها في القبو أو خلف جدار في منزل، ثمة كهوف لجأ لها الفارون من عصابات القتل، وأيضاً أولئك الذين مضوا بأطفالهم إلى اكهوف في الجبال والوهاد، بعيداً من قصف البراميل المتفجرة، أو قذائف المدافع وصواريخ الطيرانَين الأسدي والروسي. كما يُحتمل أن تنجو الكتابات على جدران المهاجع والزنازين في الفروع الأمنية، لتصبح وثائق تُسلط عليها الأضواء قبل أن يتبدل الحال، فيحاول البعض محوها بحجة تأثيرها في المصالحة الوطنية.