في طفولته، كان المخرج تامر محسن (53 عاماً) يجلس ساعات على سطح خزانته، ويحرك دماه التي علقها بخيوط، وينقلها بين أصابعه في شغف تجاه فن التحريك والحركة التي تأتي من مرادفها اليوناني كلمة دراما. ونما هذا الفن مع الفتى وحوله بعد دراسة الهندسة المعمارية إلى المعهد العالي للسينما ثم إخراج النسخة المصرية من برنامج الدمى البديع "Sesame Street"، ثم البرامج الوثائقية، وصولاً إلى باكورته الدرامية، مسلسل "دون ذكر أسماء"، مخرجاً لنص كتبه وحيد حامد.
وبعدما أخرج مسلسلات من تأليف كتاب منفردين وورش كتابة مشتركة، وأخرج الفيلم السينمائي "قط وفار" لحامد أيضاً، أخذ محسن منعطفاً جديداً في مسيرته حين قرر أن يكتب بنفسه نص عمله مع "هذا المساء" و"لعبة نيوتن" برفقة مجموعة من الكتاب، ثم مسلسل "قلبي ومفتاحه" مع السيناريست مها الوزير. والعمل الذي انتهى عرضه منتصف رمضان، وكان مؤلفاً من 15 حلقة فقط، كما يوحي عنوانه المأخوذ من أغنية الفيلم الكلاسيكي "رسالة من امرأة مجهولة" (فريد الأطرش ولبنى عبد العزيز)، هو مسلسل رومانسي يشكل رسالة حب كبيرة وعميقة للسينما عموماً والسينما المصرية خصوصاً.
وكان محسن كلما انهمك في عمل تلفزيوني ما، يضبط نفسه كي لا يصنع مشاهد تصلح للسينما، ما جعله يقرر هجرة الدراما التلفزيونية والوثائقية، إلى أن عاد أخيراً عن قراره مع "قلبي ومفتاحه" ليمسك العصا من الوسط وينتج مسلسلاً بنكهة السينما وروحها وأدواتها.وتبدأ كل حلقة من حلقات "قلبي ومفتاحه" (أغنية لفريد الأطرش)، بعنوان خاص بها، 14 منها هي عناوين أفلام مصرية: "السفيرة عزيزة" (طلعت رضوان 1961)، "المتوحشة" (سمير سيف 1979)، "إشاعة حب" (فطين عبد الوهاب 1961)، "خطيب ماما" (فطين عبد الوهاب 1965)، "سوبر ماركت" (محمد خان 1990)، "حب فوق هضبة الهرم" (عاطف الطيب 1986)، "أنا وإنت وساعات السفر" (محمد نبيه 1985)، "حب في الزنزانة" (محمد فاضل 1983)، "طائر على الطريق" (محمد خان 1981)، "يوم من عمري" (عاطف سالم 1961)، "سلام يا صاحبي" (نادر جلال 1987)، "ليلة ساخنة" (عاطف الطيب 1994)، "زوجتي والكلب" (سعيد مرزوق 1971)، "موعد على العشاء" (محمد خان 1981)، أما الحلقة الأخيرة فتحمل اسم أغنية "قلبي ومفتاحه" التي عرضت في فيلم لصلاح أبو سيف العام 1963. ليس واضحاً إن كانت هذه الأفلام هي لائحة أفلام محسن المفضلة، لكن الثابت أن السينما المصرية قالت تقريباً معظم ما يمكن أن يقال تجاه مواقف الحياة المختلفة في أفلام القرن العشرين. بالتالي، ومع تتبع الأحداث يمكن نفي تهمة الافتعال أو الإقحام غير المبرر لتلك الأفلام في مسلسل محسن الجديد، حيث ترك قصته تسير بمسارها التلقائي ولم يجعلها رهينة أفلامه الكلاسيكية المفضلة.ويبدو واضحاً أن محمد خان أحد مخرجي محسن المفضلين، لكن ذلك ليس بسبب استعادة ثلاثة من أفلامه ضمن اللائحة السابقة، بل بسبب هيمنة روح فيلم "موعد على العشاء" على قصة المسلسل، ولا يبدو الاختيار منحازاً لخان فقط بل لأن شخصيات فيلمه هذا مازالت موجودة اليوم، ولأن جوهرها يبقى كما هو. كثيرات من نساء مصر، والشرق الأوسط عموماً، ما زلن يتزوجن للنجاة من جحيم الفقر، والأمهات يشجعن بناتهن على ذلك، والعائلات تستغل بناتها لاتّقاء العوز. ومازالت قلة من الزوجات تتجرأ على تحدي الزوج المستبد من أجل البحث عن فرصة جديدة، مع رجال يتمتعون بالشهامة والشجاعة ويتحدون بعيونهم المخرز. وبطلة محمد خان "نوال"(سعاد حسني) التي مضغت السم كحل وحيد لمأساتها، تركت خلفها نوالات كثيرات، و"ميار" بطلة محسن، واحدة منهن.في "قلبي ومفتاحه" يتحدى محسن الكثير من مسلّمات الدراما التلفزيونية. فاختصر الحلقات إلى 15 لتجنب لعنة الحلقات الـ30 التي تلاحق موسم الدراما المصري السنوي. وبدأ ذلك الاتجاه في الدراما المصرية قبل عامين لكن نجاح "قلبي ومفتاحه" سيشجع على هذا المسار. وإن كان ذلك لا يخدم آلة الإعلانات الشرهة، إلا أنه يخدم فن الدراما بذاته، وهذا ما يجب على المؤمنين بهذا الفن والمخلصين له أن يهتموا به.شرك آخر سعى محسن إلى تخطيه، وهو الاعتماد على الشخصيات الشريرة والخارجة على القانون، إذ يلاحظ المتابعون والنقاد مؤخراً أن الدراما المصرية باتت تدور في حلقة مغلقة من الشخصيات متطرفة السلوكيات، وكأن المجتمع كله عبارة عن بلطجية وتجار ممنوعات وفاسدين فقط. فهل اختفى فعلاً الفرد البسيط المسالم؟ الفتاة المهذبة اللبقة؟ العجوز المغرم؟ الأم الهرمة التي تمضي وقتها تتابع الأفلام الكلاسيكية وتطهو؟ قدم محسن إجابته في مسلسله الأخير وأثبت أن هذه الشخصيات تصنع عملاً درامياً ناجحاً فنياً وجماهيرياً.وإضافة إلى محافظة محسن على أدواته وبراعته في رسم الشخصيات وعالم كل منها وقاموسه ولغة جسده، وعلى متانة الحبكة وعدم ترهلها، قدم قفزة نوعية في التصوير الخارجي تحديداً في الشوارع والجسور التي تعتبر شرايين القاهرة، واحدة من أكثر مدن العالم ازدحاماً وكثافة سكانية، ما يعيد التذكير بمسلسل "دون ذكر أسماء" الذي وقعت فيه أخطاء أثناء التصوير الخارجي وسط البلد، ويبدو أن محسن أخذ سقفاً عالياً من التحدي حين قرر تصوير جزء كبير من مسلسله في الشوارع.ولعل منطقة اللبيني المتفرعة من منطقة الهرم وشارعها الشهير، وتتشارك مع أهرامات الجيزة المحافظة نفسها، ويعيش فيها وفي جوارها أبطال المسلسل، هي إحدى أهم شخصيات المسلسل. لديها صلات واضحة وموظفة درامياً بالشوارع المحيطة والأبنية المجاورة، ويراها المشاهد عبر حركة المرور والسيارات والباصات. كما أنها متصلة بأبطال العمل ومسارات حياتهم، ولنا في المشوار الذي قامت به بطلة المسلسل المأزومة إلى شارع الهرم حيث أحد الكابريهات، مثال. كذلك المسافة التي تقطعها البطلة نفسها من بيت طليقها في اللبيني إلى فندق في وسط البلد حيث ستلتقي بزوجها السري.وبالتعاون مع الكاتبة المتميزة، مها الوزير، اجتهد محسن في العمل على شخصية المكان، كما لم يفعل سابقاً، ما يمكن اعتباره التميز الأبرز لعمله الجديد، واستثماراً ذكياً في مكانة الحارة الشعبية في السينما الكلاسيكية التي رصدت تحولات تلك الحارة عقداً بعد آخر.