الأخبار: ابراهيم الأمين-
لم تمض ساعات على إعلان سقوط النظام السوري، حتى اتجهت الأنظار إلى أحوال السنّة من اللبنانيين، وفي البال أن ما جرى في دمشق سينعكس عليهم في لبنان. وفيما مرّت زيارة وليد جنبلاط إلى قصر الشعب لمبايعة أحمد الشرع من دون أثر لاحق، راقب الجدّيون قَسَمات وجه الرئيس نجيب ميقاتي أثناء عناقه لقائد سوريا الجديد. فيما انطلق التنظير بأن سنّة المدن اللبنانية يميلون إلى الإسلام الدمشقي التقليدي، وهو حال كثيرين ممن أطلقوا على أنفسهم صفة «سنّة الاعتدال والوسط»، في محاولة لإظهار تمايز عن الإسلام السياسي. فيما يدرك هؤلاء أن «شيوخ الطرق الصوفية» في سوريا لم يعودوا الأكثر نفوذاً، فيما برز فريق سلفي أكثر تأثّراً بالوهابية الآتية من الجزيرة منه بإسلام بلاد الشام.
والقلق من التطورات السورية ظهر بين سنّة لبنان، عند من يخشون انزياح الفقراء صوب الشرق بحثاً عن منقذ لهم، وممن عانوا الأمرّين، لعقود، من سيطرة أغنياء سنّة لبنان، لم يصلهم خلالها من أكياس الذهب الخليجية إلا الفُتات. وهو ما لفت الجهات الخارجية التي أبدت خشيتها، ولا تزال، من أن تتحول سوريا إلى محجّة لسنّة لبنان. وهو واقع قابل للتحقّق، خصوصاً لدى أبناء الشمال والبقاع الذين لم يشهدوا أي نوع من الترقّي الاجتماعي حتى في عز الحريرية السياسية، وكانوا يضطرون إلى الوقوف على خاطر وليّ الأمر الآتي من ممالك الصحراء من أجل بعض الدعم. وتفاقم الأمر أكثر عندما باتت المؤسسة الدينية الرسمية تعتاش هي أيضاً على ما يصل من مكرُمات الخليج.
ربما كانت السعودية الطرف الأكثر تفاعلاً مع الحدث السوري الجديد. وهي تتصرف كمن بات مُرغماً على تحمّل المسؤولية من جديد، إذ لدى الرياض الكثير من الريبة والقلق إزاء تعاظم النفوذ التركي في بلاد الشام. لذا قرّرت انتهاج مسار لا يتطابق مع وجهة نظر الأردن والإمارات، أو حتى مصر، لأن للسعودية ما يكفيها من مصائب. وحتى «الخطر الحوثي» في جنوب الجزيرة، يصبح أمراً عادياً أمام خطر رياح بلاد الشام.
عندما غضبت السعودية من سنّة لبنان قرّرت معاقبتهم بالإهمال، إذ لم تجد منهم دعماً حقيقياً في مواجهة الدعم الذي يقدّمه حزب الله لـ«أنصار الله» في اليمن، ولو حتى بتظاهرة. وهي، عندما وجدت الميدان خالياً، قرّرت سجن سعد الحريري، قبل أن تضطر إلى إطلاقه، شرط قبوله المنفى تحت الرقابة في دولة الإمارات، وحاولت إيجاد بديل له قبل أن تكتشف سريعاً ضحالة من اعتقدت بأنهم قد يخلفونه، فأصيبت بالإحباط، وقررت الابتعاد، مبقية الحرم على سنّة لبنان.
لكن، جاءت الحرب على غزة، ثم على لبنان، ومن ثم سقوط النظام في سوريا، بمثابة ضربات على الرأس. وبدأت أصوات ترتفع في المملكة، ويخرج من أهل القرار من يتحدث عن انتهاء مرحلة «النأي بالنفس» عن بلاد الشام. وعادت الرياض لتسأل عن أحوال لبنان وسوريا وفلسطين والأردن أيضاً. لكنّ عودتها لن تكون كما يحلم كثيرون ممن ينتظرون أكياس الدنانير.
أحداث فلسطين ولبنان وسوريا أخرجت آل سعود من مربع «النأي بالنفس» عن بلاد الشام، لكنّها ليست السعودية التي نعرفها
لنعد قليلاً إلى الخلف. بعد عام 1982، لم تكن السعودية بعيدة عن نتائج الاجتياح الإسرائيلي للبنان وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت. لكنّ علاقات الرياض مع دمشق، حينها، سمحت لها بتفاهمات جعلت سنّة لبنان تحت رعاية سوريا. وعندما أدار عبد الحليم خدام مفاوضات الاتفاق الثلاثي، نهاية عام 1985، تصرّف كوكيل عن سنّة لبنان الذين لم يكن لهم ممثّل على الطاولة. في بيروت، خرجت أصوات قليلة ترفض تهميش السنّة بعد طرد إبراهيم قليلات، أو آخر المقاتلين السنّة في العاصمة، بعدما سبقته شخصيات ناصرية إلى مصر، فيما خرجت العائلات التقليدية تباعاً من المشهد. وكان الصوت الأعلى بين من بقي في لبنان هو صوت المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد الذي عندما سأل خدام عن ممثل السنّة في الاتفاق الثلاثي، جاءه الجواب: «وماذا أفعل أنا هنا؟ أنا أمثّل سنّة لبنان في الاتفاق».!
مرّت السنوات، وتبدّلت الأحوال في المنطقة، وجاء رفيق الحريري على حصان التسوية الأميركية - السعودية - السورية باسم اتفاق الطائف، وصار هو الوكيل تحت نظر دمشق. وعندما قرّر الأميركيون فضّ الشراكة بعد اجتياح العراق عام 2003، تولّت فرنسا إدارة الانعطافة في بلاد الشام، بمباركة سعودية. فانتهى التفويض لرفيق الحريري الذي دفع حياته ثمناً، قبل أن يدخل لبنان مرحلة التناقضات الكبيرة.
مع الوقت، لم تنجح محاولات الأميركيين والسعوديين والأوروبيين في تثبيت حكم موالٍ لهم في لبنان، وظلوا يعاندون حتى اندلعت الأزمة في سوريا. يومها، لم يكن مفاجئاً أن يشعر سنّة لبنان بأنهم في موقع القادر على إعلان دعمهم للثائرين على حكم آل الأسد، وشاركوا بفعالية في تمكين المعارضين السوريين، مدنيين ومسلحين أيضاً. لكنّ الرياح سارت باتجاهات أخرى، لتجد السعودية نفسها في موقع الراغب بتعديل المشهد المعقّد القائم في وجهها: حرب فاشلة مع اليمن، انقلاب أبعد رجالاتها عن المشهد العراقي، صمود الأسد في سوريا، وتنامي المقاومة الإسلامية في فلسطين، كلها شكّلت عوامل كابحة للجموح السعودي، قبل أن يقرر محمد بن سلمان أن يبتعد كلياً عن هذه المنطقة. وما فعله مع سعد الحريري لم يخلق وقائع مناسبة له في لبنان، لكنّ ما حصل في العام الأخير قلب الأمور رأساً على عقب.
فجأة، وجدت السعودية نفسها أمام وقائع جديدة. تعرّض حزب الله لضربة كبيرة في لبنان، وانحسر النفوذ الإيراني بعد سقوط الأسد في دمشق، والحكومات الإسلامية والعربية تنشد واقعاً جديداً في فلسطين، بينما يواصل النظام الأردني قلقه من تحويله إلى ضرر جانبي للتحولات الكبرى، ما اضطر أهل الحكم في الرياض إلى السير في مبادرات سريعة من أجل عدم تشكّل المنطقة من دونهم. في فلسطين، وافقوا على أي إدارة غير حماس لقطاع غزة، وفي الأردن قرّروا استئناف العلاقة مع الملك عبدالله بعد فشل الانقلاب عليه، وفي العراق نظّموا علاقتهم بعيداً عن التوترات الكبيرة. وعقدوا هدنة مقبولة مع إيران، ويسعون إلى اتفاق مع اليمن إن سمحت لهم أميركا بذلك، وفي دمشق، قرّروا اعتماد سياسة الاحتواء من خلال بناء علاقات حذرة مع الحكام الجُدد.
أما في لبنان، فقد سارع السعوديون إلى تبنّي كامل الوصفة الأميركية للحكم الجديد، فأرسلوا أكثر دبلوماسيّيهم فظاظة إلى لبنان ليبلّغ جميع من يمون عليهم بأن جوزيف عون هو الرئيس وممنوع النقاش في الأمر. ثم وافقوا على إطاحة نجيب ميقاتي الذي لم يقبلوا به حليفاً في أي وقت. وهم لا ينظرون إلى نواف سلام على أنه رجلهم، لكنّهم يريدونه تحت عباءتهم.
على هذا الطريق، يجب متابعة المسار السعودي الجديد. لم تُفتح الخزائن كما يفترض كثيرون، بل ستصل الأموال بالتنقيط، ووفق برنامج لم يعتد عليه اللبنانيون من قبل. والأهم في كل ما سنلمسه من السعوديين من الآن فصاعداً، هو أنه يجب منع إصابة سنّة لبنان بالفيروس السوري السريع الانتشار، وأن الرياض مستعدّة لتحمّل كلفة أي لقاح يمنع انتشار «المرض الجديد»، كما ينظرون إليه. وإلى أن يقضي الله في أمر عباده، ستقول السعودية لمن يرغب أو لا يرغب: أنا من ينطق باسم السنّة في لبنان!