تشكّل الأحزاب السياسيّة ركيزة أساسية في أي نظامٍ ديمقراطي، حيث تساهم في تأطير العمل السياسيّ، وصياغة السياسات العامة، والمشاركة في الحكم من خلال تقديم الكفاءات والقيادات القادرة على إدارة شؤون البلاد. فالأحزاب ليست مجرد كيانات تنظيمية، بل هي مؤسسات تُعبّر عن توجهات فكرية وبرامج إصلاحية تهدف إلى تطوير الدولة وتحقيق المصلحة العامة.

ففي أي نظامٍ سياسيّ ديمقراطي، يُفترض أن تشارك الأحزاب بفعالية في السلطة، سواءً عبر التمثيل النيابيّ أو عبر إشراك كوادرها في الحكومات. فمشاركة الأحزاب في السلطة تعكس إرادة الناس التي عبّروا عنها من خلال الإنتخابات، كما أنها تضمن وجود رؤية واضحة وبرامج محددة بدلًا من الحكم الارتجالي أو القائم على المصالح الفردية.
إلا أن هناك من يسعى إلى تشويه هذا المفهوم وإفراغه من مضمونه، عبر محاولات فرض أعراف غير دستورية، كاستبعاد الأحزاب من الحكومات بحجّة السعي إلى إختيار “شخصيّات غير حزبيّة”، وهو ما يطرح تساؤلات جوهرية حول مفهوم الحزبيّة والإلتزام السياسيّ.
فالالتزام السياسيّ لا يقتصر على البطاقة الحزبيّة، بل يشمل كل من يتبنى فكرًا ونهجًا سياسيًا معينًا، سواء كان حزبيًا رسميًا أو مجرد مؤيد يحمل قناعات الحزب نفسه.

بعد تكليف القاضي نواف سلام تشكيل الحكومة، أصر التّيار الوطنيّ الحرّ، أصرَّ على مبدأ وحدة المعايير والمساواة والعدالة بين المكونات السياسيّة. هذا الموقف، رغم أنه يعكس جوهر النظام الديمقراطي، شكّل مصدر إزعاج للجهات المستفيدة من العرف القائم على إحتكار بعض الوزارات لصالح طوائف أو جهات معينة، وهو أمر غير موجود في الدستور اللبناني، ولا في إتفاق الطائف، لكنه أصبح بمثابة بدعة وامتياز سياسيّ يراد تكريسها بأي ثمن.
ما يطالب به التيّار اليوم ليس سوى تطبيق المعايير نفسها بين جميع الأطراف، وهو موقف يزعج المتضررين الذين يريدون تكريس أعراف غير موجودة في الدستور. فإما أن تسري القواعد على الجميع، أو أن يعترفوا بأن ما يريدونه هو حكمٌ انتقائيّ قائم على المحاصصة والتمييز.
من هنا، اتهم التيّار بعرقلة تشكيل الحكومة لمجرد مطالبته بتطبيق معايير موحّدة على الجميع. فالمعادلة التي يطرحها التيّار واضحة، فإذا كان رئيس الحكومة المكلف يرغب في عدم توزير حزبيين، فلماذا يتم تعيين شخصيّات تدور في فلك أحزاب معيّنة تحت مسمى “مستقلين”؟ وهل هناك في لبنان شخصية سياسيّة أو وزارية غير منتمية فكريًا أو مناطقيًا أو مذهبيًا إلى جهة معينة؟

إن التيّار الوطنيّ الحرّ لم يعارض مبدأ عدم توزير حزبيّين، بل أبدى انفتاحه على النقاش بهذا الشأن، لكنه في الوقت نفسه يعتبر أن إستبعاد الأحزاب بشكل مطلق هو إستهداف غير مبرر للحياة السياسيّة الطبيعيّة. ففي الأنظمة الديمقراطية، يُعدّ إلتزام الوزراء بالأحزاب التي ينتمون إليها قيمة إيجابيّة، لأنها تعني وجود خطط وبرامج واضحة يتم تنفيذها، بدلًا من تعيين شخصيّات لا تملك أي هوية سياسيّة واضحة، أو تدّعي الإستقلالية بينما هي مرتبطة فعليًا بمراكز قوى خفية.
فالتجربة السياسيّة في لبنان أثبتت أن الميليشيات حين وصلت إلى الحكم فشلت وأفسدت، بينما تبقى الأحزاب الديمقراطية، على الأقل، محكومة بضوابط وآليات داخلية تحاسب أداء أعضائها. وبالتالي، فإن إقصاء الأحزاب لمصلحة شخصيّات تحمل صفة “المستقلين” ليس سوى تلاعب بالمفاهيم ومحاولة لتسويق أشخاص محسوبة على جهات سياسيّة معيّنة لكن بلباس مختلف.

إن أي محاولة لإقصاء الأحزاب عن العمل الحكومي، ليست سوى محاولة لإضعاف الحياة السياسيّة وضرب التعددية والديمقراطية. فلا يمكن إستبدال الأحزاب بواجهات مستقلّة في الظاهر لكنها حزبيّة في الجوهر، كما أن وحدة المعايير في تشكيل الحكومة يجب أن تكون الأساس، وليس الاستثناء الذي يتمّ التلاعب به لمصالح فئوية.