أحمد دقة -
عندما تكون على قيد الحياة، تكون غالبية أجزاء حياتك ملكك، هذا كشخص عادي طبعاً. لكن إذا كنت شخصية عامة، فأنت تفقد الكثير من هذه الحرية في حياتك، فتكون ملكاً للجماهير.
مع ذلك، تبقى قادراً ببعض التصريحات والمواقف أن تملك تأثيراً يغيّر الرواية عنك. يمكن لحدث واحد أن يقلب صورتك في أذهانهم من ضفة إلى أخرى. لكن عند موتك، كُلّ هذا التأثير والتأثير المضاد سرعان ما يضمحِل، فتُصبح حاضراً في الأذهان، فيُحكى عنك لا إليك. شخصيات كثيرة في التاريخ، تحوّلت بعد رحيلها عن العالم إلى أساطير. أساطير فعلية لا مجازية، أساطير يُحكى عنها وتتملّك الأذهان وتصير مثالاً يُضرب.
تتحوّل من رمز حاضر يتفاعل، إلى شيء ينتمي إلى العالم الآخر، لكنهُ يُؤسس لمرحلة ما بعد، يكون فيها سابقاً لزمنه ولأحداث تلي غيابه عن العالم يكون فيها عالماً تكلّم عن هذا وذاك، ليصل بك الحال وتقول: «أرأيت؟ قال فُلان ذلك». وما السيد حسن نصر الله، سوى واحد من هؤلاء الذين ينظرون للمستقبل بعينٍ ثاقبة، فيكون كلامه عند رحيله.
في ظل ما يواجهه العالم اليوم من جنون، بعد «إزاحة» الجبل من مكانه، باستشهاد السيد، بمفهوم صهيوني للعالم، تحرّرت إسرائيل من الكثير من القيود تجاه القضية الفلسطينية أوّلاً وتجاه تعاملها مع العرب ثانياً، من مصر إلى الأردن وسوريا ولبنان وغيرها، وخصوصاً مع رعاية مجنون البيت الأبيض خطة تهجير الفلسطينيين وإنهاء القضية الفلسطينية بشكل تام. أشياء كان قد تحدّث عنها نصر الله في خطاباته، عندما كان يقول إنّ القضية الفلسطينية ليست مجرد شعب يُقتل ويُذبح وتؤخذ أرضه بالحديد والنار، بل تشكّل خطراً على العالم برمّته والمحيط الفلسطيني خصوصاً.
هكذا أصبح نصر الله بطلاً وأسطورة مستفزة للنظام العالمي المشارك والداعم للإبادة. كان حجر عثرة في مشروع يُطوّع العالم بالموت والرُعب والخوف. عالم نكون فيه دُمى تُحاكي خيالاتها، وتهرع لموتها مُصفّقة، مُهلّلة، مُرحّبة، كخرفان تهرع للذبح بإرادتها.
كان خطّ دفاعنا الأوّل، لا عسكرياً ضدّ كيان الشرّ إسرائيل فقط، بل رمزياً أيضاً كأشخاص، لصورتنا وكرامتنا وما نعنيه للعالم ولأنفاسنا، فكانت أسطورته هي أن توضع بين خيارين لا ثالث لهما: أن تعيش ذليلاً أو تموت كريماً. وفي عالم لا يُقدّم لك سوى هذين الخيارين، مثل السيد لا يختار الذلة، مثله الذي ما انفكّ يُردّد «هيهات منا الذلة»، ارتحل ولم يُساوم على أن يعيش كارهاً لذاته.
فكّر فيها، وبعيداً من نصر الله، كيف في عالم مماثل يحدث فيه ما يحدث، يُسلب شعب كامل على البث المباشر حياته وماله ورزقه وسقف بيته؟ كيف تعيش مع هذا ولا تشعر بالعار من كونك إنساناً؟ كيف تنام وفيك انتماء لهذا العالم؟ كيف يكون لك لسان ينطُق وأذن تسمع وعين ترى ولا تجد في واقع موحِش مثل هذا، أن الحياة بثقلها كُلّه قد جثمت فوق صدرك؟ كيف تستطيع القول مجاهراً: أنا إنسان ينتمي إلى هذا العالم؟
نصر الله واحد منا، هو الشخص الذي كان في احتكاك مباشر طوال ثلاثين عاماً مع هذه الوقائع ومع زيف العالم ووحشيته، كيف يبقى؟ في الحقيقة، وهذا كلام قد لا يُعجب كثيرين، لقد ارتاح أبو هادي برحيله عن هذا العالم، خُلّد كأسطورة، لم تُهادن ولم ترضخ للتهديدات، ما كلّف 85 طناً من المتفجرات لإزاحته.
في الأذهان، في أذهان الجنوبيين خصوصاً، نصر الله ليس إنساناً عادياً. ستقول الكثير وسيكون لك كلام في معارضة ذلك، لكنهُ ليس عادياً وأنت تعرف. واللافت أنّ هذا غير العادي، الذي كان أسطورةً للناس العاديين، هو إنسان عادي منهم. السيد حسن أسطورة، ولم يُصبِح كذلك في بيوتهم لأنهُ ذاك الخارق البعيد الذي لا يُمكن التشبُّه به، بل على العكس من ذلك، أبو هادي أسطورة لأنهُ يُشبههم، لأنهُ منهم ومثلهم ومعهم، لأنهُ ابن الأرض والطين والشارع، يفهمهم ويفهم لغتهم ويعرف بعد تعرّضهم للقصف والترويع من العدو الوحشي الذي لا يعترف بقانون أو عُرف، ما الذي من شأنه أن يُعيد لهؤلاء وقارهم. السيد قوي، يعرف كيف يُخاطِب عالماً لا يعترف سوى بالأقوياء. ابن الأحياء الشعبية والخُبز الذي يكدّ في سبيله العامل والمزارع والموظف يومه كُلّه.
ابن الحواري الذي كُتب اسمه على حيطان الأزقّة والزواريب وعُلّقت صورته في كُلّ زاوية وعلى كُلّ حائط، لا لأنهُ بعيد ولا لأنهُ شخصية من الخيال، بل لأنه الواقع وفيه وعبره يكون المنطق بحسب بيوت جنوب لبنان كافة. يراه الأطفال كبطل يتطلعون إلى التشبه به، والكبار ناقلتهم من ذل إلى عز، والشباب يرونه ذاك الذي قادهم نحو النور... النور الثورة على الظلم والهوان والخضوع لجبابرة الأرض، ثورة ضد الخضوع للوحشية التي شكّلت عالمنا، فالسيد بمنظور الثائرين علم من أعلامها. ثورة تفجّرت في وجه نظام عالمي يأخذ منا أرواحنا وقصصنا وتاريخنا ويقتل كُلّ حياة فينا.
مات لأنهُ لم يُساوم على الحق، لو كان مهادناً لتركوه، لكنه بقي ثابتاً وها هو كلامه عن العالم والعرب عموماً يُترجم على أرض الواقع. «أنت إن قلتها مُت، وإن لم تقلها مُت، فقُلها ومُت». وهكذا، قالها وارتحل. الجبل الذي احتاجت إزاحته 85 طناً من المتفجرات، لم يساوم. صار أسطورة، سيُحكى عنها وعن أيامها الكثير، ستتناقلها الأجيال.
مثله، طين لا يُقاس بطين آخر. تعب الطين، آن للطين أن يرتحل، آن للجبل أن يرتاح، آن له أن يقعد من وقوفه الطويل. هاجرت الأسطورة في أيلول، راح الظل الذي احتمينا به وانكشفنا تحت أشعة الشمس، تحت وضوح العالم المريض، الذي كان مُغطى بعباءة نصر الله لزمن طويل، فكان رحيله عُرياً كاملاً بعد عام ونصف عام من حرب وحشية لا تعرف سقفاً على هيبة وكرامة شعوبنا.