كيف تحول “الجشع” إلى سلوك يومي في الشارع المغربي؟

هبة بريس- عبد اللطيف بركة كشفت قضية الشاب المراكشي، المعروف إعلاميًا بـ"مول السردين 5 دراهم"، والتي انتشرت تفاصيلها عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الوطنية والدولية، عن واقع مرير ، فمنذ ظهوره وحتى إعلانه الامتناع عن الإفصاح عن سعر السردين مجددًا خوفًا من استهدافه من قِبل "لوبيات الجشع"، تبيّن بوضوح الوجه الآخر للمجتمع وهو "المواطن الجشع". اعتاد المغاربة إلقاء اللوم على الحكومة كلما ارتفعت الأسعار أو تفاقمت الأزمات، لكن هذه القضية سلّطت الضوء على طرف آخر في المعادلة وهو الوسيط، الذي يستنزف جيوب المواطنين دون عناء. لم يعد الجشع مجرد سلوك فردي، بل أصبح ظاهرة اجتماعية متفشية، حيث تحول العديد من الأشخاص إلى كائنات "مفترسة للجيوب"، همّها الوحيد تحقيق الربح بأي وسيلة، مهما كان أثر ذلك على الآخرين، فبدءًا من المضاربة في أسعار الأضاحي عبر "الشناقة"، وصولًا إلى المستشفيات الخاصة التي تحتجز جثث الموتى حتى يدفع الأحياء الفاتورة، والتعليم الخصوصي الذي امتصّ مدخرات الأسر بعد تراجع مستوى التعليم العمومي، مرورًا بارتفاع أسعار المواد الغذائية، أصبح الجشع نمط حياة يحتاج إلى دراسات معمقة لفهم كيف تسلل إلى سلوكيات المغاربة. - "مول السردين" وصحوة الشارع المغربي أعاد الشاب المراكشي، الذي تحدّى جشع المضاربين ببيع السردين بسعر معقول، النقاش حول تسعير السلع والمواد الأساسية، فقد بات الرأي العام المغربي أكثر وعيًا بأسعار المنتجات، وبدأ يتابع تطورات السوق بشكل يومي، فيما يشبه "يقظة الشارع" بعد سنوات من الغفلة، بل تطوّر الأمر إلى تشكيل "وعي مشترك" للتصدي للجشع، مستغلين مواقع التواصل الاجتماعي كمنصة لفضح الممارسات غير العادلة التي يمارسها الوسطاء والمضاربون. هذا التحول في وعي المستهلكين دفع بعض الجمعيات، وعلى رأسها جمعيات حماية المستهلك، إلى مطالبة الحكومة بتحيين قائمة السلع المنظمة أسعارها وفقًا للقانون رقم 104.12 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة، وضبط هوامش الربح للمواد الأساسية التي يصعب التحكم في أسعارها. كما دعا آخرون إلى تعزيز الرقابة على الأسواق، وعدم الاكتفاء بالحملات الموسمية التي تقتصر على شهر رمضان. - سيكولوجية الجشع يعرّف الدكتور محمد بن عبدالله، المختص في علم الاجتماع، الجشع بأنه مرحلة متقدمة من الطمع، حيث يسعى الفرد إلى تكديس الأموال أو الممتلكات دون حاجة فعلية إليها، رغم معرفته بأن ذلك يحرم الآخرين من حقوقهم. وأوضح في دراسته أن الجشع طمع مرضي يتجاوز مجرد تحسين الوضع المعيشي، إذ يعتمد على استخدام كافة الأساليب، المشروعة وغير المشروعة، لجمع المال، حتى لو كان ذلك على حساب الآخرين. كما أكد أن الجشع قد يكون سلوكًا نفسيًا متجذرًا في صاحبه، وقد يصل إلى درجة مرضية حيث لا يدرك الفرد أنه مصاب به. وأشار إلى أن هذا السلوك قد يتطور ليأخذ أشكالًا أكثر خطورة، مثل الاستحواذ العنيف أو الجرائم الاقتصادية القاتلة، وفي هذا السياق، شبّه عالم النفس الألماني الشهير إيريش فروم الجشع بـ"حفرة لا قاع لها"، حيث يحاول الشخص ملأها لإشباع رغبته، لكنها لا تمتلئ أبدًا، مما يدفعه إلى المزيد من الجشع دون أي إحساس بالاكتفاء. لقد حاربت جميع الأديان هذا السلوك، فقد جاء في القرآن الكريم: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" (التوبة: 34). - تحولات اجتماعية خطيرة ما يعيشه المغاربة اليوم ليس مجرد أزمة اقتصادية عابرة ، بل هو تحول اجتماعي خطير، حيث أصبحت سياسة الجشع نمطًا سائدًا بسبب تدهور التعليم، وتراجع دور المؤسسات الدينية والتربوية، التي كان يفترض بها تكوين أجيال تتبنى قيمًا إنسانية تحارب الاستغلال وتدعم التكافل. بات من الواضح أن القيم الإنسانية تُباع اليوم بأبخس الأثمان، وأن هوس جمع المال بأي وسيلة يهدد كل المبادئ الأخلاقية والكونية، مما يستدعي وقفة حقيقية لمواجهة هذه الظاهرة قبل أن تتحول إلى قاعدة مجتمعية لا رجعة فيها.