نظرية دوامة الصمت وإسقاطاتها الواقعية

رشيد بلزعر - أستاذ محاضر في التواصل في سبعينيات القرن الماضي، قدمت عالمة النفس الألمانية إليزابيث نويل-نيومان نظرية "دوامة الصمت"، التي تُفسر كيف يُساهم الخوف من العزلة الاجتماعية في إسكات الأصوات المُخالفة للرأي العام. فحسب النظرية، يميل الفرد إلى كتمان رأيه إذا شعر بأنه أقلية، خشيةَ الانتقاد أو الرفض من الأغلبية الصاخبة. اليوم، لا تزال هذه النظرية حاضرة بقوة، ليس فقط في الفضاء الجامعي أو السياسي التقليدي، بل أيضًا في العالم الافتراضي لمواقع التواصل الاجتماعي، حيث تُسيطر العواطف والشعارات على الخطاب العام، وتُدفن الحقائق تحت وطأة الضجيج. عندما كنتُ طالبًا جامعيًا، لاحظتُ كيف تُدار النقاشات في الحرم الجامعي. كانت الفصائل الطلابية، مثل جماعة العدل والإحسان، تُحرك الطلاب عبر شعارات تلامس احتياجاتهم اليومية: "الريسطو" (مطاعم الجامعة)، والمنح الدراسية، وتحسين السكن. كانت هذه المطالب مشروعة في ظاهرها، لكنها في الواقع ستارٌ لصراعات أعمق. فخلافات هذه الجماعات مع الدولة خارج أسوار الجامعة كانت تُحوَّل إلى معارك داخل الحرم، حيث يُستغل الطلاب كأدوات ضغط سياسي. لم يكن بمقدور أحدٍ أن يعترض على المطالب "الخبزية"، فمن يجرؤ على الوقوف ضد من يُطالب بتحسين ظروف الطلاب؟ لكن مع الوقت، اكتشفنا أن تحريك الجماهير لم يكن سوى لعبة عاطفية، تُخفي أجندات لا علاقة لها بمصالح الطلاب الحقيقية. هنا تبدأ "دوامة الصمت": فالصوت العقلاني الذي يحاول فضح الزيف يُوصَم بالانحراف عن "مصلحة الجماهير"، فيلجأ إلى الصمت حفاظًا على مكانته الاجتماعية.´ اليوم، تتكرر اللعبة ذاتها على منصات التواصل الاجتماعي، لكن بآليات أكثر تعقيدًا. يُصبح "العزف على العواطف" سلاحًا فعّالًا لحشد الرأي العام: شعارات مثل "محاربة الفساد" أو "العدالة الاجتماعية" تتحول إلى أغلفة جذابة لأهداف غير معلنة. فالصحفي الذي يتحدث باسم "صوت الشعب" قد يكون جزءًا من شبكة مصالح، والمغرد الذي يهاجم الفساد من خارج المغرب قد يكون مُموَّلًا من جهات تُحارب الاستقرار. تُغذي الخوارزميات هذه الدوامة، فتُعطي الأولوية للمحتوى العاطفي الذي يولد تفاعلات سريعة، بينما تُهمّش الآراء الواقعية التي تطرح حلولًا عملية. النتيجة؟ مساحة عامة مُشوَّهة، حيث تختفي الحقائق خلف شعارات برّاقة، ويُصبح الصمت خيارًا للإنسان العاقل الذي يرفض المشاركة في المسرحية. المغرب الذي نريده.. يبدأ بخطوة خارج الصمت. نحلم جميعًا بمغرب أفضل، لكن هذا الحلم لن يتحقق بشعارات ترفعها أقليات مُسيطرة، بل بجهود صامتة تُبنى يوميًا في الفصل الدراسي، ومكتب الموظف، وورشة العامل. لننتبه إلى أن الصمت أمام الزيف هو تواطؤ معه، وأن الخروج من "دوامة الصمت" يبدأ بجرأة فرد واحد يقول: "لا تُصدقوا كل ما تسمعوه.. فالحقيقة أكثر تعقيدًا من الشعارات".