نورالدين بازين في خضم النقاشات السياسية المتعددة التي تشهدها البلاد، تتكرر بشكل لافت عبارة “رجل الدولة” للدلالة على شخصيات بارزة تحتل مناصب وزارية أو حكومية، مع الإشارة إلى ضرورة امتلاكهم لهذا الوصف الذي يكاد يحمل معه ثقل مفهوم “الدولة” وأبعادها المعقدة. غير أن خلطاً واضحاً يعتري هذا الاستخدام، مما يدفع للتساؤل: هل كل وزير أو مسؤول حكومي هو رجل دولة؟ أم أن هناك معايير تميز بين كليهما، حيث لا يكفي المنصب وحده لإضفاء هذا اللقب؟ مفهوم الوزير: الموظف التنفيذي يُعين الوزير ضمن هيكلة الحكومة للقيام بمهام محددة تتعلق بقطاع معين، كالاقتصاد أو الصحة أو التعليم، وتقتصر صلاحياته على تنفيذ سياسة الدولة في مجاله والعمل على تحقيق أهداف محددة وفق التوجهات الحكومية. ويكون الوزير عادة، ملزماً بخطة واستراتيجية الحكومة المعتمدة، ويعمل تحت الرقابة التشريعية والمساءلة السياسية، بمعنى أن دوره يتمحور حول تنفيذ القرارات والسياسات، وتنتهي سلطته بمجرد تغييره أو مغادرته لمنصبه. قد يمتاز الوزير بالكفاءة أو بالقدرة على إدارة ملفات معقدة، ولكن منصبه يجعله جزءاً من الجهاز التنفيذي، ويقتصر نفوذه على إدارته ولا يتعدى إلى أفق أكبر؛ فهو لا يمثل مصالح “الدولة” بقدر ما يمثل حكومة معينة تأتي ببرنامج مرحلي. مفهوم رجل الدولة: البعد الأعمق للقيادة في المقابل، فإن “رجل الدولة” ليس مجرد موظف في جهاز حكومي، بل هو شخصية تتسم بقدرة استثنائية على تقديم رؤية استراتيجية وحكمة قيادية تفوق حدود المناصب والأزمنة. يرتبط هذا المفهوم أكثر بالقدرة على المحافظة على استقرار البلاد، والمساهمة في بناء وتوجيه مؤسساتها بوعي عميق، ويتعدى ذلك إلى التميز بثقة المواطنين وتقديرهم العميق، وحتى الأجيال اللاحقة. رجل الدولة، على عكس الوزير، يمتلك رؤية طويلة الأمد تتعدى الأجندات السياسية الضيقة، ويستشرف مستقبل الدولة ضمن منظومة قيم وثوابت تضمن مصالح الأمة وسيادتها، حتى وإن اقتضى ذلك اتخاذ قرارات غير شعبية أو مواجهة تحديات كبيرة، بشرط أن تصب في خدمة مصالح البلاد الكبرى. اختلاط المفاهيم وأثره على المشهد السياسي يعاني المشهد السياسي أحياناً من خلط في المفاهيم؛ حيث قد يُصوَّر كل مسؤول أو وزير كـ”رجل دولة”، بسبب منصبه. غير أن هذا التصور يفتقر للتدقيق في المعايير التي تفصل بين هذين المفهومين، ما يضعف ثقة المواطنين في الطبقة السياسية ويضخم الأدوار بشكل لا يخدم مصداقية “الدولة”. هذا الخلط يشير إلى فجوة بين ما يتوقعه المواطنون وبين ما تتيحه المناصب السياسية، كما يخلق نوعاً من الفهم الخاطئ لدور “الدولة” ككل، إذ تختصر أحياناً في الحكومة ذاتها، بينما تمثل الدولة بناءً أوسع وأشمل. لقد أصبح التفريق بين “الوزير” و”رجل الدولة” ضرورة ملحة لفهم الدور الحقيقي الذي تلعبه “الدولة” والالتزام بقيمها. فحينما نبحث عن رجال دولة، نحن نبحث عن قادة حقيقيين تتجاوز أدوارهم مواقعهم الإدارية لتلامس طموحات الشعوب وتؤمن استمرارية البلاد عبر أجيال.