في قارةٍ تُوصف بأنها مهد البشرية وأرض التنوع الثقافي والفكري، تبرز الحاجةُ أكثر من أي وقتٍ مضى إلى مبادراتٍ جريئة تعيد تعريف مسار إفريقيا نحو السلام والتنمية المستدامة، ومن هنا تتنزل أهمية المؤتمر الإفريقي لتعزيز السلم كمبادرةٍ استثنائية، تجسّد رؤية ثاقبة تهدف إلى تحويل التحديات إلى فرص، والصراعات إلى شراكات، عبر حوارٍ يعتمد على الحكمة المحلية والرؤية العالمية. هذا المؤتمر الذي أصبح مؤتمرًا دوليًا ليس مجرد تجمعٍ دوري، بل هو إعلانٌ صريح لتشكيل وعيٍ حقيقي يُعلي قيم المحبة والتسامح وينبذ التطرف والغلو والإقصاء ويُحقق الشعار الذي يقول: "كفى من الحروب.. فلنكتب معًا فصلًا جديدًا من الأمل".  

إفريقيا.. قارة التحديات والفرص غير المحدودة  

تشهد القارة السمراء تناقضاتٍ صارخة؛ فبينما تُعتبر أغنى قارةٍ في العالم من حيث الموارد الطبيعية، لا تزال بعض دولها تعاني من نزاعاتٍ مسلحة وفقرٍ مدقع. لكن هذه التحديات لم تُثنِ قادةَ الفكر والسياسة عن البحث عن حلولٍ مبتكرة، حيث يُعد المؤتمر الإفريقي لتعزيز السلم أحد أبرز الأدوات لتحقيق هذه الغاية، مستفيدًا من التجارب الناجحة مثل النموذج الإماراتي في التسامح الديني وجهود بلادنا وجهود الاتحاد الإفريقي في فض النزاعات، و"أجندة أفريقيا التي نريد" التي تهدف إلى بناء إفريقيا موحدة ومزدهرة.  

أهداف المؤتمر: جسرٌ بين السلام والتنمية
 
ينطلق المؤتمر من رؤيةٍ شاملة ترى أن السلام الحقيقي لا يعني تحييد المخاطر وتفكيك الإرهاب ووقف الحروب فحسب، بل يعني بسط السكينة وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية  لذلك كانت من ضمن أبرز أهدافه:  

- مواجهة التطرف والإرهاب عن طريق تصميم استراتيجياتٍ لمكافحة تجنيد الشباب من قبل الجماعات المسلحة، عبر دمج الجهود الأمنية مع برامج التوعية الدينية والتعليمية، خاصةً في مناطق مثل  دول الساحل.

- تمكين الفئات الأكثر تأثرًا بالنزاعات (المرأة والشباب) بإشراك المرأة في عمليات صنع القرار، انطلاقًا من دورها التاريخي في حل النزاعات داخل الأسرة والمجتمع، ودعم مبادرات الشباب كمحركٍ رئيسي للتغيير.

- إعداد خطة متكاملة فاعلة ومندمجة ومستوعبة للتراث الإنساني الإفريقي للتصدي للتطرف والاحتراب والجريمة العابرة للحدود.

- تطوير مناهج التفكير، وآليات العمل وفق وسائل مبتكرة: سلمية ومشروعة لمواجهة العنف والتطرف فكرا وممارسة.

- مد مزيد من جسور التعاون بين الأديان والثقافات، أو بين رجال الدين والفاعلين في المجالات الإنسانية والحقوقية على ضوء مبدأ «تحالف القيم» و»الجوار الإنساني».

- إعادة الاعتبار لفكر التسامح الديني، والتعايش السلمي بين الأفراد والشعوب استلهاماً للمبادئ الإنسانية العالمية، وقيم الإنسانية، وتجسيدا للرسالة السامية التي أرستها صحيفة المدينة المنورة.

- تفعيل ميثاق حلف الفضول الجديد وإبراز خصوصيته وما يحتويه من القيم والفضائل، ويفتحه من آفاق واعدة للتعايش وتوحيد الناس على أساس «التعارف» و«التعاون» و«الإخوة الإنسانية»

- استلهام التقاليد العظيمة والممارسات الاجتماعية النبيلة التي يزخر بها التراث الثقافي والفني الإفريقي في مجال تعزيز قيم السلم والتسامح والتعايش، وفض النزاعات بطرق سلمية، كما تجسّده جلسات الحكمة تحت ظل شجر الدوم الباوباب الإفريقية لتدبير الاختلاف بن المزارعين والرّعاة.

- الاسترشاد بالنماذج المجتمعية المعاصرة مثل نموذج أبونتو في جنوب إفريقيا في مجال المصالحة، ونموذج دولة الإمارات العربية المتحدة في مجال التّسامح.

التحديات.. وفرص التغلب عليها
 
تواجه المبادرة تحدياتٍ جسامًا، مثل التشدد وإقصاء الآخر وتجذر خطاب الكراهية وربطه بالدين، لكن القائمين على المؤتمر يُدركون هذه التحديات وينتهجون نهجًا من شأنه رفع هذه التحديات وتقديم الصورة الحقيقية للدين القويم ويعتمدون على ركائزَ قادرةٍ على تجاوز هذه العقبات، منها:  

- إنتاج المعرفة عن طريق إصدار دراسات وأبحاث تُعيد تعريف مفاهيم السلام في العصر الحديث، مثل الربط بين العدالة الاجتماعية والاستقرار العالمي.

- التعليم: القضاء على الجهل بوصفه الرافد الأساسب لتشكل ظاهرة الكراهية.

- تعديل المناهج: بدمج مناهج السلام في الأنظمة التعليمية لبناء جيلٍ جديدٍ يؤمن بالحوار.  

-الدعوة إلى التعايش: عن طريق إحياء القيم الإفريقية الأصيلة التي تُعلي من شأن التعاون، مثل مبدأ "أوبونتو" (الإنسانية المشتركة).  

المؤتمر الإفريقي لتعزيز السلم.. هدية أبو ظبي لإفريقيا

إن الشراكة القائمة بين المؤتمر الإفريقي لتعزيز السلم ومنتدى أبو ظبي للسلم تؤكد أن الإمارات ليست دولةً غنيةً اقتصاديًّا فحسب، بل غنيةٌ بقيمها الإنسانية التي تجعلها قادرة على قيادة تحالفات عالمية للسلام. فتحت مظلة المنتدى، تُصاغ سياساتٌ تُعيد تعريف دور الدين في بناء المجتمعات، وتُثبت أن التعايش ليس شعارًا، بل منهج حياة.

والمؤتمر الإفريقي لتعزيز السلم ليس مجرد حدثٍ عابر، بل هو جزءٌ من خطةٍ تُجسد الرؤية الرشيدة لما ينبغي أن تكون عليه إفريقيا والعالم من منظور يعكس رؤية الإمارات الاستراتيجية لتعزيز السلام عبر القوة الناعمة للفكر والدين، مُستلهِمًا قيم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، في ترسيخ التعايش واحترام التنوع وتنزيلًا للقراءة الدينية لفضيلة العلامة المجدد الشيخ عبد الله بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، الذي حوّل أفكاره حول "فقه الموازنات" و"مقاصد الشريعة" إلى أدوات عملية لصناعة السلام. ففتاواه المناهضة للإرهاب، وحواراته مع زعماء العالم والقادة الدينيين جعلت منه صوتًا عقلانيًا يُحتذى به في زمن تضيع فيه الحكمة.

يستحق المؤتمر أن يُوصف بأنه أوكسجين الأمل في عالمٍ يعاني من اختناقات الصراع، وهو رؤية ثاقبة تؤكد أن الدعوة للسلم ضرورة وليس رفاهًا وهي مسؤولية لا تؤجل والبداية في إفريقيا تعني أن السلام في إفريقيا هو بدايةٌ لسلامِ العالم.

التار أحمده/ باحث في مجال الإعلام والاتصال