غزة / PNN/ تقرير - إسراء البلعاوي / "أفيق وقد امتلأت ملابسي وفراشي وغطائي بالدِّماء، وعليَّ تنظيف كلِّ هذا أمام أبنائي. اضطررت ذات مرّةٍ لحفر حفرةٍ صغيرةٍ داخل الخيمة ودفن كتل الدِّماء فيها". تعود هذه الكلمات لامرأةٍ فلسطينيَّةٍ أجبرتها الحرب الإسرائيليَّة الّتي اندلعت في السابع من أكتوبر/تشرين الأوَّل عام 2023 على النُّزوح.
ويشكِّل هذا القول القليل ممَّا تعانيه الفلسطينيَّات النَّازحات في الخيام؛ إذ تعيش مئات الآلاف منهنَّ حياةً تفتقر لكافَّة مقوِّمات الحياة وتنعدم فيها وسائل النظافة والخصوصيَّة، وهو وضعٌ جعل أيام الدورة الشهرية همًّا كبيرًا للنِّساء.
ففضلًا عن اضطرارهنّ للذهاب للحمَّامات العامة أو التي تُبنى بشكلٍ بدائيٍّ على الرِّمال، تخوض تلك النساء رحلة عناءٍ لتوفير الفوط الصحية التي وصلت أسعارها لأرقامٍ خياليةٍ.
في هذا التقرير نقف على معاناة الفلسطينيات مع الدورة الشهرية في النزوح وانتهاك خصوصيتهن في الخيام.
الملابس البالية فوطًا صحية
بعينين متورِّمتين، تجلس تغريد أحمد (42 عامًا) أمام خيمتها في منطقة البركة بدير البلح، تحاول اقتناص القليل من دفء شمس الضُّحى. فقد كانت ليلتها الفائتة صعبةً للغاية، عانت من مغصٍ شديدٍ بسبب الدورة الشهرية وفاقت خلالها أكثر من مرَّةٍ لتغيير الفوط والملابس؛ إذ تسبَّبت ألياف الرَّحم التي كانت تتعالج منها قبل اندلاع الحرب بنزيفٍ لها.
تقول تغريد: "لا أستطيع وصف حجم المعاناة في هذه الخيمة، وسط أبنائي الثلاثة أفيق وقد امتلأت ملابسي وفراشي وغطائي بالدماء وعليَّ تنظيف كلِّ هذا أمامهم"!
في بداية هذه الحرب، وقبل أن تبدأ عمليات نزوح سكان شمال غزة، قصف منزل تغريد الكائن في منطقة الدفاع المدني في حيّ الصفطاوي، وإثر هذا القصف استشهد ابنها حمزة وهو في التاسعة من عمره مع جدته، فيما أصيبت تغريد مع العديد من أفراد العائلة.
تقول تغريد: إن معاناتها مع الدورة زادت بسبب حزنها على ابنها، وأصبحت دماء الدورة الشهرية أكثر غزارةً في ظلّ صعوبة المتابعة الصحية وفقدان الأدوية التي كانت تخفِّف من غزارة الدورة.
وصلت المعاناة بتغريدٍ لحدّ اضطرارها لاستخدام الملابس البالية بديلًا عن الفوط الصحية التي شحّت في السوق وأصبح سعر القليل المعروض منها مرتفعًا للغاية. تقول تغريد: "كنت كمجنونةٍ، أبحث عند من حولي عن ملبسٍ بالٍ كي أستخدمه كحفاظةٍ، فأنا في العادة أحتاج إلى أربعة أكياسٍ من الفوط، وثمن الواحد منها وصل لخمسٍ وثلاثين شيكلًا، وزوجي عاطلٌ عن العمل".
وتتابع بقهرٍ شديدٍ، أنَّها في بعض المرّات اضطرّت لحفر حفرةٍ صغيرة داخل الخيمة ودفن كتل الدماء التي تنزل منها. وتوضِّح: "عندما كان الحمَّام واحدًا للمخيم كله، اضطررت لفعل ذلك داخل خيمتي، وتمنَّيت حينئذٍ لو تنشقُّ الأرض وتبلعني لأستريح من هذه المعاناة"!
الدورة الشهرية ..كابوس
يشكِّل موعد الدورة الشهرية كابوسًا كبيرًا لصابرين (32 عامًا)، فهي تعاني من مرض الذِّئبة الحمراء وتخثُّر الدم، وقد زادت معاناتها خلال الحرب، تلك المعاناة التي بدأت بالنزوح من مخيَّم الشاطئ إلى مدينة رفح ثم خان يونس، وانتهت بالنزوح في مكانٍ ضيّقٍ بالنُّصيرات مع عائلتها المتمددة.
تقول صابرين إنَّه رغم ما يصاحب مرضها من آلامٍ شديدةٍ، فإنَّ هذه الآلام تتضاعف خلال الدورة الشهرية؛ بسبب أدوية ضبط سيولة الدم التي يتضمنها "كورس" علاجها.
في كل دقيقةٍ، تتفقَّد صابرين مكان جلوسها وملابسها من الخلف خوفًا من أن يضعها تسرُّب الدم في موقفٍ محرجٍ أمام الأقارب من حولها.
توضِّح لنا: "تارةً أشير لسلفتي وأخرى لابنتي أن تنتبه إذا ما تسرَّب شيءٌ مكاني".
كغيرها من النساء الفلسطينيات، عانت صابرين من مسألة توفير الفوط الصحية. تقول: "عندما كنت نازحةً في حيّ تلِّ السُّلطان برفح، كانت الجمعيَّات تتكفَّل إلى حدٍّ ما بتوزيع الفوط الصحية على خيامنا، ولكن منذ اجتياح رفح أصبح توفير الفوط الصحية صعبًا للغاية، فأنا لم أستطع شراءها، وكان عليَّ الاستعانة بمن حولي من القريبات لتزويدي بالفوط".
بالنّسبة لصابرين، تزيد معاناتها من قلَّة المياه وصعوبة نقلها كثيرًا خلال أيام الدورة الشهرية، فهي بحاجةٍ إلى كمياتٍ مضاعفةٍ كي تغسل جسدها وملابسها والحمَّام الذي يغرق في الأيام الأولى بدماء الدورة الشهرية.
تقول صابرين: "ينقل زوجي المياه بشكلٍ يوميٍّ، وأحاول التخفيف عنه بالترشيد قدر المستطاع بسبب معاناته من الغضروف".
وتضيف: "في الأيام الأولى من الدورة عليَّ أن أمضي وقتًا طويلًا في تنظيف جسدي وغسل ملابسي والحمَّام، وفي هذه الأثناء تكاد لا تمرُّ دقيقةٌ واحدةٌ دون أن يدقَّ باب الحمّام عليَّ، ويزيد الحرج بشدّةٍ إذا كان الطارق رجلًا من العائلة".
من جهةٍ أخرى، يشكِّل التَّخلُّص من الفوط المستخدمة هاجسًا آخر في ظلِّ الافتقار إلى أكياس القمامة.
وهنا تقول إنَّ زوجها في كل حينٍ يجب أن يتخلَّص منها أولًا بأولٍ في مكبِّ النُّفايات المكدَّس أمام مكان نزوحهم.
ميلاد داخل خيمة
في مخيّم جفرة بمنطقة السراحة وسط قطاع غزة، تعيش عهد رزق (24 عامًا) مع زوجها وحماتها داخل خيمةٍ من البلاستيك الأزرق، الذي يعكس لونه حتى على وجه وليدها الجديد.
عندما علمت عهد بحملها أوّل مرّةٍ، وذلك بعد مرور أربعة أشهرٍ عليه، تكالبت عليها الكثير من المخاوف، بعضها خاصٌّ بصعوبة الميلاد في الخيمة، وأخرى بكيفيّة حماية ابنها من البرد والظروف المعيشية القاسية داخل الخيمة.
وفي المحصلة، قضت فترة حملها في ظروفٍ قاسيةٍ جدًّا، تتذكرها قائلةً: "كان الوقت صيفًا، والخيمة شديدة الحرارة، كنت أركض خلف الظل في المخيّم خاصتنا، حتى إنني اضطررت لطهي طعامي مع وقت الغروب، لأني لا أستطيع دخول الخيمة قبل هذا الوقت".
أصيبت عهد بسوء التغذية خلال فترة حملها، ولكن بفضل اللّه مرت شهور الحمل بثقلها، وعادت بطفلها إلى الخيمة بعد فشل محاولتها قضاء فترة ما بعد الميلاد في بيت مستأجر.
تُبيّن عهد أنه منذ اللحظة الأولى للعودة إلى الخيمة، أهمّها بشكلٍ كبيرٍ الاستحمام من الولادة في حمَّام المخيَّم، ثم الخروج في الهواء البارد للوصول إلى الخيمة؛ فجسدها منهكٌ جدًّا، وأي تيار هواءٍ قد يسبِّب لها المرض.
يبعد الحمَّام الخاصُّ بخيمة عهد نحو خمسة أمتار عنها، لذا عليها في منتصف الليل أن تلتحف جيَّدًا عند الذَّهاب لقضاء حاجتها حتى لا يضرُّها الهواء البارد و تقول لنا: "كثيرًا ما مرضت، وأثر ذلك على طفلي، ولكن لا حل لمعاناتي مع الحمام".
وتضيف: "الحاجة للحمام في أيام الميلاد الأولى صعبةٌ جدًّا، أقضي أكثر من ثلث ساعةٍ لتنظيف نفسي".
وحفاظًا على خصوصيتها، تضطرّ عهد لغسيل ملابسها الداخلية داخل الحمام الضيق ذي الصرف الصحي المؤقت، وهنا توضح: "أغسل ملابسنا خارج الخيمة أمام المارَّة، أما ملابسي الداخلية فعلي أن أغسلها داخل الحمام بمياه باردة جدًّا، وهو أمر تسبب في مرضي أكثر من مرةٍ، وأثر على رضيعي".
عادت عهد من المستشفى بطردٍ صحيٍّ تكفَّلت بتوزيعه جمعيةٌ خيريةٌ لكل نفاسٍ، وقد ارتاحت عهد لحصولها على فوطٍ صحيةٍ تكفيها الأيام الأولى من فترة النفاس، ولكن سرعان ما نفدت الكمية، وأصبح عليها توفير المزيد منها.
تقول عهد عن الفوط الصحية: "ثمنها مرتفعٌ وجودتها رديئة في الغالب. كان زوجي يبحث كثيرًا عمَّا يناسبني".