لم تكن فكرة تهجير الفلسطينيين وليدة حرب الإبادة ضد قطاع غزة، أو بسبب خطة ترامب الحالية، بل هي موجودة حتى قبل قيام "إسرائيل" وحصولها على الدعم والاعتراف الدولي.
تظهر دعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتهجير أهالي قطاع غزة إلى عدد من الدول العربية على أنها أحدث خطط التهجير، التي جاءت ضمن برامج عدد من الحكومات الإسرائيلية المتتابعة وأفكار ضم الأراضي الفلسطينية إلى "إسرائيل".
أن مفهوم "الترانسفير" يعد أحد المفاهيم السائدة في فكر الحركة الصهيونية حتى من قبل قيام "الدولة" اليهودية.
فمنذ الأيام الأولى للاستيطان الصهيوني في فلسطين، كانت القيادة الصهيونية تتصارع مع ما سمّته "المسألة العربية"، أي مشكلة خلق دولة استيطانية ذات أغلبية يهودية في فلسطين حيث كان الفلسطينيون هم الأغلبية الساحقة من السكان، وكانوا يمتلكون معظم الأراضي.
وكان الحل المفضل لدى معظم القادة الصهيونيين هو ما يسمى "الترانسفير"، أي الانتقال، وهي كلمة تقول مؤسسة الدراسات الفلسطينية أنها "مُلطّفة للتطهير العرقي والطرد المنظّم لسكان فلسطين نحو بلاد عربية مجاورة".
أن مفهوم "الترانسفير" لم يكن مجرد حل نظري للمشكلة الديمغرافية العربية، ولكنه كان سياسة ممنهجة نفّذتها القيادات الإسرائيلية المتعاقبة وطبّقتها بدرجات متفاوتة من النجاح، بل واعتبرتها حلاً جذرياً لمشكلات "إسرائيل" المتفاقمة منذ 67، فقد حرصت على الاحتفاظ بالأراضي الفلسطينية التي احتلتها عام 67 لسببين، الأول: أن التوسّع يعد ركناً أساسياً في مشروع "الدولة الكبرى" التي ينبغي أن تمتد من النهر إلى البحر، والثاني: رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة لأنها ترى في قيامها تهديداً لأمنها وربما لوجودها ذاته.
فإذا ربطنا ما يجري حالياً في قطاع غزة بما يجري في الضفة الغربية، والتي تشهد بدورها أعمالاً وحشية من جانب "إسرائيل"، تشمل مصادرة الأراضي، والتوسّع الكبير في بناء المستوطنات، وهدم البيوت، وتسليح المستوطنين وتشجيعهم على الاعتداء على منازل وممتلكات الفلسطينيين وعلى دور العبادة وعلى الاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى، لتبيّن لنا بوضوح تام، وبما لا يقبل مجالاً لأي شك أن "إسرائيل" تسعى بكل ما لديها من وسائل لتضييق الخناق على الفلسطينيين المقيمين بالضفة أيضاً وحملهم على مغادرتها والتوجّه إلى الأردن.
ويمكن القول إن عملية "طوفان الأقصى" لم تكن في حقيقة أمرها مجرد جولة جديدة من جولات الصراع العسكري مع المشروع الصهيوني، لكنها كانت في الوقت نفسه عملية كاشفة لطبيعة المخططات الإسرائيلية التي تستهدف إقامة "دولة" يهودية كبرى خالية من كل الفلسطينيين.
صحيح أن بؤرة التركيز في هذه الجولة تتعلق بطرد سكان قطاع غزة وترحيلهم، لكن الدور سيأتي غداً على سكان الضفة، وبعد غد على فلسطينيي 48، فـ "دولة إسرائيل الكبرى"، وفقاً لمنطق التطوّر الذي سلكه المشروع الصهيوني، لا تتسع لغير اليهود، ومن ثم فإذا أراد الفلسطينيون أن يكون لهم موطئ قدم في فلسطين فعليهم أن يقبلوا بوضع المواطنين من الدرجة الثانية.
ولأنهم لن يقبلوا مطلقاً بمثل هذه المهانة، فقد جاءت عملية "طوفان الأقصى" لتثبت أن الشعب الفلسطيني ما زال متمسّكاً بحقه في تقرير مصيره، وفي إقامة دولته المستقلة على كامل أرضه التاريخية، وأنه قادر على تحقيق هذا الهدف مهما بلغت التضحيات.