(هذه المادّة هي الثالثة، وهي من جزءين، من سلسلة بعنوان: استعادة الأثر: غزّة في كتب اليوميّات والمذكّرات والسير". ننشرها تباعًا على شكل مقالات تتضمّن قراءات في كتب يوميّات ومذكّرات وسير ذاتيّة خطّها غزيّون، أو كتبت من غزّة على مدار القرن الماضي ومطلع القرن الحادي والعشرين.

"هطل في ذلك اليوم مطر غزير لم يسبق لغزّة أن رأت له مثيلًا منذ مئات السنين، وامتلأ وادي غزّة بالمطر، وأخذت السيول تنساب من داخل حدود إسرائيل إلى هذا الوادي، فلاحظ البدو أنّ السيول ابتدأت تجرف معها بعض الجثث نحو غزّة، وتكاثرت الجثث حتّى أصبحت بالمئات... وكلّها قد تعفّنت وضاعت معالمها بحيث أصبح من العسير معرفة أصحابها" كان ذلك السيل من فعل مطر آذار/مارس مطلع عام 1957، والّذي فضح وكشف عن سرّ اختفاء مئات الغزيّين الّذين اعتقلهم جيش الاحتلال قبل أشهر، أثناء احتلاله القطاع في حرب العدوان الثلاثيّ في أواخر تشرين الأوّل/أكتوبر سنة 1956. لم يكن عدوانًا ثلاثيًّا على مصر كما كنّا نظنّ، بل عدوانًا على غزّة ومصر معًا بحسب ما يخبرنا الطبيب المصريّ أحمد شوقي الفنجري عن غزّة الخمسينيّات، ومنها في مذكّراته "إسرائيل كما عرفتها".

تعود مذكّرات الطبيب المصريّ أحمد الفنجري "إسرائيل كما عرفتها" الصادرة بطبعتها الأولى سنة 1960، والثانية سنة 1995 عن دار الأمين، إلى إقامته في غزّة منذ وصوله إليها في مطلع عام 1953، وعمله فيها كطبيب حتّى عام 1957، وذلك في ظلّ الحكم المصريّ على القطاع وسكّانه ما بين سنة 1948 وحتّى عام 1967 حيث احتلّت إسرائيل القطاع رسميًّا. غير أنّ جيش الاحتلال، سبق أن احتلّ القطاع لأشهر وجيزة في ظلّ العدوان الثلاثيّ سنة 1956. وعن ممارسات ذلك الاحتلال الوجيز، وما سبقها وتلاها من سياسات وممارسات اقترفتها بحقّ القطاع وأهله يحدّثنا الفنجري بوصفه شاهدًا لم يتورّع عن وصف وفضح روع ما شهده. وذلك، كما لو أنّ شهادة الطبيب الفنجري وثيقة تؤصّل لطبيعة وجوهر عنّف الاحتلال في حرب الإبادة الدائرة حتّى اللحظة على القطاع، وأهله بوصفه عنفًا استثنائيًّا في درجة وحشيّته تجاه القطاع مردّه إلى مطلع الخمسينيّات.

في تلّ الزهور

ما أن حطّ الدكتور الفنجري قادمًا عبر القطار من القاهرة إلى القنطرة ثمّ العريش إلى غزّة، طبيبًا متطوّعًا للعمل مع وكالة غوث اللاجئين، حتّى استدعي في اليوم التالي على وصوله إلى مستشفى تلّ الزهور الواقع في شارع عمر المختار، لإسعاف أفراد أسرة أحد المتسلّلين المطلوبين من مخيّم البريج اسمه "جابر النبّاهين". اقتصّت منه إسرائيل، باستهداف بيته وأسرته في مطلع كانون الثاني/يناير 1953، ما أدّى إلى مقتل زوجته وثلاثة من أطفاله. كان استهداف إسرائيل لغزّة وقتها متّصلًا بحربها على ما عرف بالمتسلّلين قبل أن يحوّلوا إلى فدائيّين بعد سنوات قليلة.

جنود إسرائيليّون ينكّلون بالفلسطينيّين في غزّة عام 1956 (Getty)

أغلق جيش الاحتلال مستشفى تلّ الزهور، بعد احتلاله القطاع في مطلع ثمانينيّات القرن الماضي، محوّلًا إيّاه مقرًّا عسكريًّا، ثمّ صار لاحقًا مقرًّا لبلديّة غزّة. ولأنّ الفنجري قد التحق بغزّة طبيبًا، فإنّ مذكّراته تتضمّن أوّل شهادة موثّقة عن حرب إسرائيل على مستشفيات القطاع، الّتي تبيّن أنّها سياسة ممنهجة تعود إلى تلك المرحلة.

إن وصف صاحب الشهادة الطبيب، لاستهدف الاحتلال مستشفيات ومستوصفات غزّة، مناسبة للحديث عن الطبّ والمرض وأنواع هذا الأخير الّتي كانت تفتك بسكّان القطاع وخصوصًا في مخيّمات اللاجئين، مثل مرض شلل الأطفال الّذي تفشّى بين أطفال اللاجئين. فحكاية الطفلة مها المصابة بالشلل ظلّت عالقة في ذهن الكاتب تحيله إلى مأساة شلل أطفال غزّة وقصفها بمدافع "المورتر" معًا.

ففي يوم 25 شباط/فبراير 1955 يروي الفنجري عن سماعه دويّ انفجار في القطاع على إثر قصف جيش الاحتلال أحد المواقع المأهولة بمدافع المورتر. حول القصف بعض الأطفال إلى أشلاء، فيما أصيبت مها بارتجاج ونزيف في الرأس. وبعد أن تجمّع المسعفون والأهالي حول أشلاء أطفالهم يصف الطبيب، سقطت قذيفة ثانية استهدفت المتجمّعين في الموقع، كان من بين الضحايا والد ووالدة مها اللّذان وصلا لإسعاف ابنتهم على أثر القذيفة الأولى. كانت سياسة القتل قصفًا وما زالت تعمل بهذا النهج، وتعمل انتقامًا وحشيًّا جماعيًّا، قصف موقع بقذيفة والانتظار ليتجمّع الناس فيه، ثمّ قصفه بقذيفة أخرى بما يسفر عن مذبحة جماعيّة.

في مذبحة المورتر تلك، كما يسمّيها الطبيب المصريّ، اضطرّ بعض الأطبّاء المسعفين إلى خلع ملابسهم، إلى حدّ تعرّى فيه بعضهم من فرط ما مزّق من ثيابه، واستخدمها شاشًا لتضميد الجرحى. لم ير أطبّاء مشافي غزّة بأنفسهم مجرّد مسعفين، بقدر ما كانوا فدائيّين من جرّاء سياسة إسرائيل وفظائعها، فقبل حاثة مذبحة المورتر، يروي الفنجري عن اعتراض اليهود في مطلع شباط/فبراير من العام نفسه لسيّارة إسعاف على الطريق ما بين غزّة وخان يونس، إذ يقول إنّهم "أوقفوها وأمروا ركّابها بالنزول وبينهم الطبيب ومعه جنديّ (مصريّ) جريح، ثمّ أطلقوا رصاصهم على الطبيب والسائق والجريح فقتلوهم... وبعد أيّام، اقتحم الجيش الإسرائيليّ خان يونس ونسف بيت حاكمها ومركز البوليس فيها، ثمّ مستشفى المدينة الّذي كان حديث البناء".

الماء الأزرق

في الوقت الّذي استهدف فيه مستشفى تلّ الزهور بحسب صاحب الشهادة، قصف جيش الاحتلال الإسرائيليّ المستشفى "التبشيريّ" – يقصد المستشفى المعمدانيّ -، وكذلك مستشفى العيون، مع العلم أنّ أوّل مستشفى للعيون في غزّة قد تأسّس في سنة 1965، أي بعد عقد من الزمن، وربّما يقصد مستوصف العيون في مستشفى تلّ الزهور نفسه. ويروي عن دور طبيب مصريّ آخر اسمه "مصطفى ناجي" الّذي وصل غزّة قبل عام من ضربها بمدافع المورتر، وأعماله في مجال علاج أمراض العيون مثل الرمد وغيرها، الّتي كانت منتشرة بكثرة بين اللاجئين؛ بسبب "الرمال والذباب إلى جانب الفقر والأحزان" إلى أن صار الدكتور ناجي قبلة ومقصد كلّ سكّان القطاع.

بعد يوم من حادثة مذبحة المورتر، كان الدكتور ناجي في المستوصف يقوم بعمليّة تسمّى "الماء الأزرق" لامرأة غزيّة مسنّة، وإلى جواره مسعّفة اسمها إلهام تساعده. سقطت قذيفة مدفع مورتر بحسب الفنجري على المستوصف، واخترقت غرفة العمليّات، وقتلت العجوز المريضة في فراشها، كما اخترقت شظّيّة صدر المسعّفة إلهام، بينما نجا ناجي الطبيب. ثمّ كانت قذيفة أخرى، هدمت جناحًا كاملًا من المستشفى، وقتلت اثنين من مرضى العيون، بينما فرّ الباقون معصوبي الأعين يدوس بعضهم بعضًا.

فلسطينيّات أمام مقرّ الأونروا عام 1956 (Getty)

بعد تلك الحادثة، انتقل ناجي لاستئناف عمله في قسم الجراحة في المستشفى نفسه، وممّا يرويه صاحب الشهادة، أنّ مجموعة فدائيّة غزيّة نفّذت عمليّة بعد أيّام قليلة على الحدود قتلت فيها يهوديًّا، وأصيب فدائيّ فيها بشظيّة في عينه اخترقت القرنيّة. حمل الفدائيّون الفدائيّ الجريح والقتيل معهم كذلك إلى الدكتور ناجي الّذي اضطرّ بدوره إلى نقل قرنيّة عين القتيل اليهوديّ، وزرعها في عين الفدائيّ الّذي نجا من عمى مؤكّد. غير أنّ إسرائيل بعد استلامها جثّة قتيلها، استغلّت تلك الحادثة، وروّجت لحملة إعلاميّة عالميّة تحت عنوان "الطبيب القاتل". بعد عام على الحادثة، مع احتلال إسرائيل للقطاع في العدوان الثلاثيّ على غزّة ومصر، اقتحم جيشها مستشفى تلّ الزهور، وكان أوّل من اعتقلوه الطبيب مصطفى ناجي.

ولا تنتهي سيرة الأطبّاء ودور معظمهم الفدائيّ في القطاع، إذ يروي الطبيب المصريّ عن طبيب مبشّر أميركيّ آخر اسمه "يانج" والّذي عمل جرّاحًا في المستشفى المعمدانيّ (الأهليّ). استهدفت قذيفة من مدفع مورتر بيت الطبيب يانج وأسرته في نفس يوم حادثة مجزرة المورتر، وذلك في الوقت الّذي كان يجري فيه يانج عمليّة في المعمدانيّ، غير أنّ أسرته نجت من القذيفة. ولاحقًا مع العدوان الثلاثيّ سنة 1956 واحتلال إسرائيل للقطاع، طلب من جميع الأطبّاء الأجانب الخروج من القطاع والتوجّه إلى البوارج الإنجليزيّة والفرنسيّة على شاطئ البحر، وفعلًا غادر كلّ الأطبّاء الأجانب غزّة قسرًا، باستثناء "يانج" الطبيب الأجنبيّ الوحيد الّذي ما برح غزّة وقطاعها في حينه. ومن جانب آخر، يروي الفنجري عن أطبّاء أجانب آخرين عملوا في وكالة غوث اللاجئين، وتواطؤوا إلى حدّ التآمر مع إسرائيل على سكّان القطاع، لا بل كانوا أدوات لتمرير سياسات تخدم نوايا الاحتلال تجاه سكّان القطاع، وخصوصًا اللاجئين في المخيّمات، من بينهم أطبّاء هولنديّون، جاء صاحب الشهادة على ذكرهم وذكر سلوكهم.

وممّا يؤكّده الدكتور الفنجري، بأنّ إسرائيل كانت ترسل على أثر تلك الأحداث جواسيسها إلى المستشفيات منتحلين صفة الصحفيّين، خصوصًا أنّ معظمهم يهود من أصول عربيّة، للتجسّس. وذلك بغرض استطلاع ما حلّ بالفدائيّين المطلوبين المصابين، أو بفحص أثر السلاح المستخدم وفاعليّته على الضحايا، وقد أشار صاحب الشهادة إلى "صحفيّ عربيّ" زاره في مستشفى تلّ الزهور، وسمح له بالتقاط صور لمصابين من أجل نشرها في الصحف المصريّة، تبيّن لاحقًا بعد اعتقال الطبيب أحمد الفنجري في عتليت بأنّه ضابط مخابرات إسرائيليّ.

في مستشفى خان يونس

إنّ أكبر استهداف نفّذه جيش الاحتلال الإسرائيليّ لمستشفيات غزّة، كان في خان يونس أثناء الخمسة شهور الّتي احتلّت فيها إسرائيل القطاع خلال العدوان الثلاثيّ على غزّة ومصر سنة 1956، وقد استمرّ احتلال القطاع حتّى مطلع آذار/مارس 1957. اقتحمت قوّات جيش الاحتلال مستشفى خان يونس على أثر مقاومة خان يونس وصمودها ورفضها التسليم على خلاف غزّة المدينة وقتها، وكان "العجرودي" هو من قاد المقاومة ضدّ جيش الاحتلال وقتها، ممّا ولد نقمة إسرائيليّة على مقاومة المدينة إلى حدّ استهداف مستشفاها.

يصف الفنجري بعد وصوله إلى خان يونس، حال المستشفى فيها، دون أن يوثّق اليوم وتاريخ اقتحامه، وهو يوم مذبحة خان يونس في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 1956، حيث الجثث والضحايا والمصابون يملأون عنابر وأروقة المستشفى، وكان أكثرهم من الجنود المصريّين والفدائيّين الفلسطينيّين المحاطين بزجاجات البلازما وزجاجات نقل الدم المعلّقة على الحوائط أو فوق أعمدة الأسرة وأربطة الشاش والقطن من كلّ جانب. وفجأة يقول صاحب الشهادة، دوّت طلقات المدافع الرشاشة بغزارة داخل عنابر المستشفى، وظهر جنود إسرائيليّون "وابتدأت الأسرة والجثث والدواء بالطيران في الهواء حتّى سقف العنبر"، فتحوّل المستشفى إلى بركة من الدم.

قتلوا جميع الأطبّاء والممرّضات والجرحى على النقّالات، ولم يتركوا إنسانًا حيًّا في المستشفى، يقول الفنجري، الّذي أصيب وأغمي عليه، حتّى قطط المستشفى قتلوها. ويذكر أسماء ثلاثة من زملائه الأطبّاء الّذين استشهدوا في مذبحة المستشفى. ثمّ أكمل جنود الصهاينة المذبحة خارج المستشفى على الطريق المؤدّي إليه، سقط فيها مئات الشهداء والضحايا في أكبر مذبحة عرفها الفلسطينيّون بعد نكبتهم في حينه.

بعد انتهاء حرب العدوان الثلاثيّ، وانسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزّة في مطلع آذار/مارس 1957، كانت عائلات مصريّة وصلت القطاع تجوبه وتجوب مشافيه بحثًا عن أبنائهم، من بينهم عائلات الأطبّاء الشهداء الثلاثة، الدكتور عبد المنعم حافظ، والدكتور سامي عبد المجيد والدكتور محمّد سعيد السيّد. لم يكن أهالي الأطبّاء يعرفون باستشهادهم، كما لم يتسنّ لهم العثور على جثّامينهم ولا مواقع دفنهم بعد أن حاولت إسرائيل إخفاءها، لولا سيل شتاء ذلك الشهر الّذي أفصح وفضح حجم الجريمة في خان يونس ومستشفاها.

كانت شهادة الطبيب أحمد شوقي الفنجري، وصفيّة عن مأساة الطبّ والأطبّاء والمرض ومستشفيات القطاع، يوم أن كان الطبيب بالضرورة مصريًّا في ظلّ إلحاق قطاع غزّة بإدارة الحكم المصريّ. ومع أنّ دوافع الحرب استهداف إسرائيل الوحشيّ للقطاع منذ مطلع الخمسينيّات كانت مختلفة، واتّصلت بالتحوّلات السياسيّة والأمنيّة الّتي طرأت على القطاع ومصر معًا في عقد الخمسينيّات، إلّا أنّ الدافع لفكرة استهداف المستشفى والطبيب في القطاع في حينه، كان مردّه بالدرجة إلى فكرة التهجير؛ مشروع تهجير أكبر عدد ممكن من اللاجئين في مخيّمات غزّة إلى خارجها، وقد أشار معين بسيسو في دفاتر مذكّراته عن تلك السنوات ما بين 1953 – 1956 ومقترح تهجير لاجئيّ غزّة وإعادة توطينهم في سيناء. إنّ قصف المشافي والمرافق الطبّيّة، لم يكن ولن يكون مجرّد ردّ فعل انتقاميّ، بقدر ما أنّه سياسة وحشيّة واعية وممنهجة تفرض لنزع أهمّ مقوّم في حياة الناس منها، لجعل الحياة غير ممكنة في المكان. تمامًا مثلما هو جاري اليوم بحرب الإبادة على القطاع حيث لم يبق مستشفى إلّا واستهدفه جيش الاحتلال.