لسنا بحاجة لأن نكتشف كلّ مرّة من جديد كم هي إسرائيل متفوّقة تكنولوجيا، لأنّنا نعرف أنّها "قطعة من" وقاعدة للغرب الاستعماريّ الّذي بنى تطوّره الصناعيّ والتكنولوجيّ على حساب الشعوب المستعمرة وتكريس تخلّفها، كما أنّ إسرائيل من جهتها ليست بحاجة لتثبت لنا مجدّدًا كم هي ماهرة بتوظيف التكنولوجيا الحديثة في عمليّات القتل الفرديّ والجماعيّ الّتي ما انفكّت تمارسها ضدّ شعوبنا في إطار حربها الدمويّة على تثبيت وجودها المتأرجح في المنطقة.

لقد خبرنا هذا التفوّق عندما قصفت صفّوريّة وبلدات فلسطينيّة أخرى بالطائرات خلال نكبة 48، حتّى قبل أن تصبح إسرائيل دولة، ورأيناه في نتائج الحروب التقليديّة الّتي خاضتها مع دول عربيّة لاحقًا، ولمسناه في تفجير أجساد كوادر المقاومة الفلسطينيّة عن بعد في بيروت، وشاهدنا ذلك بالبثّ المباشر لدى دخول الصواريخ الإسرائيليّة من شبابيك المكاتب وغرف النوم، وهي تطيح برؤوس المقاومة في رام اللّه وغزّة سابقًا وبيروت وطهران مؤخّرًا، كما شهدنا العمليّات الجراحيّة، وهي تودي بحياة العشرات، وصولًا إلى استعمال تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ الّتي حوّلت كلّ غزّة إلى خراب.

لكنّ عمليّة "جيمس بوند" الأخيرة الّتي قامت بها إسرائيل في لبنان، "بخست" على حدّ قول بن كسبيت مشهد توم كروز، وهو ينزل إلى الجبال البركانيّة بواسطة الحبال، ويصارع أثناء ذلك إرهابيّين اثنين داخل طائرة محترقة تهوي إلى القاع، وجعلته يعود ليتعلّم كيفيّة تشغيل "البيجر"، هذه العمليّة ليس أنّها فاقت الخيال الهوليوديّ فقط، بل كسرت كلّ المعايير الّتي يتمّ مراعاتها حتّى في أكثر الحروب الإلكترونيّة قذارة.

وبالرغم من ذلك من الجدير التذكير أنّ هذا التفوّق التكنولوجيّ، ليس أنّه لم يشكّل رادعًا أمام حركات التحرّر الوطنيّ وحركات المقاومة في التحدّي والقتال والانتصار، بل شكّل سببًا رئيسيًّا من أسباب الصراع مع قوى الهيمنة والاستعمار تلك، الّتي سعت وما زالت إلى توظيف المعرفة والتكنولوجيا كأدوات للسيطرة والتحكّم بمصائر الشعوب.

لقد حاربت كلّ قوى التحرّر، وتصدّت بأسلحتها البدائيّة البسيطة، وانتصرت على القوى الاستعماريّة الّتي امتلكت أحدث الأسلحة وأكثرها فتكًا، لأنّها تسلّحت بالإرادة الشعبيّة الّتي وفّرت لها القدرة على الصمود والتضحية والرغبة بالانتصار والتحرّر، هذا ما حدث في الجزائر وفيتنام وكوبا وأفغانستان وغيرها من دول العالم، وحتّى في مواجهات وجولات سابقة مع إسرائيل في لبنان (انسحاب عام 2000) و(حرب 2006) وفي غزّة (خطّة فكّ الارتباط) عام 2005.

إسرائيل الّتي هربت من لبنان بعد احتلال دام 18 عامًا وهربت من غزّة (دون أن تمنحها سيادة كاملة) بعد 38 عامًا، يحتدم فيها النقاش هذه الأيّام بين إنجاز صفقة تضمن الانسحاب الكامل من القطاع، وبين حكومة نتنياهو الّتي تدعو إلى بقاء الجيش الإسرائيليّ في محوري "فيلادلفيا" و"نيتسريم" بما يعنيه ذلك من بقاء أو عودة الاحتلال والتورّط مجدّدًا في حرب استنزاف طويلة، وهو الخيار الّذي ينتظرها في لبنان أيضًا في حال عزمت ونجحت بتنفيذ خطّتها باحتلال الجنوب وإقامة منطقة عازلة تصل إلى نهر الليطاني، وكما تخطّط حكومة نتنياهو.

المحلّل العسكريّ أمير أورن أشار في مقال نشرته "هآرتس" إلى تزامن عمليّة تفجير "أجهزة الاتّصال" الّتي نفّذتها إسرائيل في لبنان مع الذكرى الـ 42 لمذبحة صبرا وشاتيلا، مستذكرًا كيف قام بشير جميل الّذي كان قد انتخب رئيسًا للبنان، بجرّ إسرائيل إلى حرب تعمل على تنصيبه، وهو ما أدّى إلى إثارة سوريا وحلفائها والإقدام على اغتياله، وكيف أفضت مجزرة صبرا وشاتيلا إلى تحطيم وهم بيغن- شارون -رفول بقطف إنجاز من المغامرة الّتي قتل خلالها مئات الإسرائيليّين، وأنبتت حزب اللّه كعدوّ جديد.

أورن يدعو إلى التعلّم من التجربة الإسرائيليّة الغنيّة في التعامل مع حزب اللّه خلال الـ 40 سنة الأخيرة، منذ عمليّة تفجير مبنى الحكم العسكريّ في صور عام 1982 بعد شهرين من مجزرة صبرا وشاتيلا... ويخلص إلى القول بأنّ المتحمّسين للعودة إلى لبنان اليوم، فقط من أجل حلّ مشكلة ضائقة سكّان الجليل يلعبون بالنار، لأنّه لا يوجد شخص في الحكومة، هيئة الأركان، قيادة الشمال والاستخبارات العسكريّة، لديه القدرة على تقدير معدّل الردّ من بيروت وطهران وحتّى واشنطن.

وهو يرى أنّ هدف الحرب على لبنان هو استكمال الحرب على غزّة خدمة لمنفعة شخصيّة لإنسان وحيد فاشل متّهم بارتكاب جرائم (نتنياهو)، في حين أنّ البديل واضح وهو وقف إطلاق نار في الجنوب، وفي الشمال وإعادة المخطوفين والتوصّل إلى ترتيبات في غزّة بمساعدة قوّات خارجيّة والتفاهم مع لبنان على النزاع الحدوديّ.

اقرأ/ي أيضًا | "البقاء في محوري فيلادلفيا ونيتسريم يعني مواصلة الاحتلال"