يُقال إنّ بنيامين نتنياهو يكذب مثلما يتنفّس، دون أن يرفّ جفنه حتّى؛ لكنّ الكارثة تحصل عندما تختلط صفتان بشخص في مقامه؛ صفة السياسيّ دون ضوابط أخلاقيّة بصفة العقائديّ والأيديولوجيّ المتشدّد، فتتحوّل حياة البشر إلى أداة سياسيّة في خدمة شخص، وفي الخلفيّة مشروع أيديولوجيّ عنصريّ يؤمن بتفوّق تاريخيّ ربّانيّ لدم على دم. هذا المزيج من الصفات كان كارثيًّا على الشعوب حتّى في القرن العشرين، إذ تصطفّ غالبيّة الشعب خلف الزعيم المخلّص في طريقها إلى التهلكة.

وبنيامين نتنياهو من نوع الزعماء الّذي يعيشون على صناعة الاستقطاب في المجتمع. حصل ذلك من الاستقطاب في المجتمع الإسرائيليّ في ولايته الأولى بشأن التسوية مع الفلسطينيّين، وقبل السابع من أكتوبر بشأن الانقلاب الدستوريّ، وأخيرًا بشأن المحتجزين الإسرائيليّين في غزّة من ناحية اتّفاق تبادل الأسرى مع حركة حماس، فبعد أشهر معدودة من الحرب، استطاع إعادة الاستقطاب إلى المجتمع الإسرائيليّ، فاستعاد قوّته الانتخابيّة في استطلاعات الرأي، وما زال يحكم السيطرة على المشهد السياسيّ بمفرده، ومعظم قادة الأحزاب من المعارضة والائتلاف يتحرّكون على إيقاعه، وكذلك قادة الأجهزة الأمنيّة.

إذًا، فهو ليس سياسيًّا انتهازيًّا متّهمًا بالفساد، أو مجرّد زعيم كاريزماتيّ وديماغوجيّ، بل يشعر بأنّه يحمل رسالة تاريخيّة للشعب اليهوديّ، يخلّصهم من "الفرس" ويقضي على الأعداء واحدًا تلو الآخر سحقًا محقًّا. ولأنّ ذلك قضاؤه، بنظره، فإنّ الحرب هي قدره، مهما طالت؛ فلا يمكن التسامح مع الإهانة الّتي تعرّضت لها مملكته في السابع من أكتوبر، إلّا بسحق "الجبابرة"، لأنّ من دون ذلك، فإنّ مكانة إسرائيل وهيبتها وردعها، في المنطقة وفي العالم، سوف تتمرّغ في تراب "الفرس".

يقول إسرائيليّون إنّ نتنياهو بلا إستراتيجيّة سياسيّة وحربيّة، وإنّ حساباته سياسيّة صغيرة وهمّه الاستمرار في الحكم؛ إلّا أنّ الحقيقة هي أنّ الحرب، أو إدارة الحرب، هي إستراتيجيّته. وإذا أرادت إيران تطويقه بحزام ناريّ، فإنّه يشعل النار في قلبها وقلب محورها، من الحديدة على ساحل البحر الأحمر، مرورًا بطهران، وصولًا إلى بيروت على ساحل البحر الأبيض.

فإذا كان نظام الوليّ الفقيه في إيران قد وجد لتخليص الشيعة من المظلوميّة في انتظار عودة المهدي، فإنّ إسرائيل الصهيونيّة وجدت لتخليص اليهود من الاضطهاد التاريخيّ، بنظره، مهما طالت الحروب.

إزاء ذلك، فليس في الأفق نهاية للحرب على في قطاع غزّة، فتحويلها إلى مكان غير صالح للعيش هدفه واحد: تهجير الفلسطينيّين، وإذا لم يهجّروا، فيجب إجبارهم على التمرّد على حركة حماس بخلق الظروف الدافعة إلى ذلك. تنتهي الحرب إمّا بالهجرة أو بالتمرّد، أو بالاثنين معًا.

أمّا في لبنان، فبنظر نتنياهو، فهو يقوم بمحاربة قوّة أساسيّة أماميّة لإيران، تريد خوض معركة استنزاف وفق قواعد اشتباك متّفق عليها، لكنّه في العمليّة الإجراميّة الأخيرة، بتفجير أجهزة اتّصال لا سلكيّة، يأخذ المواجهة إلى سقف أعلى، قد تكون أكثر من استنزاف وتبادل الضربات، ولكن تحت سقف الحرب الشاملة. وإذا قال حسن نصر اللّه "أهلًا وسهلًا" للجيش الإسرائيليّ في جنوب لبنان، فإنّ نتنياهو يقول "أهلًا فسهلًا" أيضًا. إن أردتم الحرب فكانت، أي يستدرج الخصم إلى معضلة قاتلة، يكون فيها الردّ وعدم الردّ مجازفة.

ما يسمح لهذا الواقع الّذي يصل حدّ الحرب الشاملة والمحكوم برغبات شخص بالنسبة له الأخلاق رذيلة، هو تعامل "الغرب المتحضّر" مع جريمة استهدفت قتل آلاف الأشخاص بقبول إلى حدّ الإعجاب، ولأنّ من نفّذها هي "دولة اليهود" وضحاياها هم عرب أو غير غربيّين.

يدرك نتنياهو أنّ أيّ حرب مع حزب اللّه لا تنتهي بنصر مؤكّد وواضح ومحسوم، سوف يعني أنّ مصير دولته ومكانتها صار غير مؤكّد وواضح ومحسوم.

اقرأ/ي أيضًا | إيران والعرب... وإسرائيل