(هذه المادّة هي الثالثة، وهذا الجزء الثاني منها، من سلسلة بعنوان: "استعادة الأثر: غزّة في كتب اليوميّات والمذكّرات والسير". ننشرها تباعًا على شكل مقالات تتضمّن قراءات في كتب يوميّات ومذكّرات وسير ذاتيّة خطّها غزيّون، أو كتبت من غزّة على مدار القرن الماضي ومطلع القرن الحادي والعشرين).

"وكان يوم رحيلهم عن غزّة يومًا مشهودًا حزينًا، فقد أخذت العائلات الفلسطينيّة تودّعهم بالبكاء والنحيب ويقولون لهم: انشالله عائدون، انشالله راجعون، سلّموا على عبد الناصر".

كان ذلك يوم اتّخذ جيش الاحتلال الإسرائيليّ قرارًا بترحيل كلّ العائلات المصريّة من قطاع غزّة بعد احتلاله في ظلّ حرب العدوان الثلاثيّ على مصر الناصريّة والقطاع في عام 1956. كان إيواء مصريّ، من أخطر التهم الّتي يمكن أن توجّه لأيّ غزيّ من قبل جيش الاحتلال الإسرائيليّ في حينه. يقول الطبيب المصريّ أحمد شوقي الفنجري الّذي شهد أيّام تلك الحرب في القطاع خلال تأديته واجبه كطبيب متطوّع في وكالة غوث اللاجئين، وتحديدًا في معسكر "مخيّم" جباليا للّاجئين، وتعبير "معسكر" كان التسمية الدارجة الّتي ظلّ يطلقها المصريّون وأهالي غزّة على المخيّم وقتها.

عمومًا رحلت العائلات المصريّة في ذلك اليوم، وقد أرفق الطبيب الفنجري في كتاب مذكّراته "إسرائيل كما عرفتها" صورًا توثّق خروج المصريّين بموكب مركبات، حيث خرجت كلّ غزّة المدينة ومخيّماتها لوداعه بالمناديل والدموع، بينما كنّا في الجزء الأوّل المتّصل بمذكّرات الطبيب الفنجري، بوصفها شهادة على ما تعرّض له قطاع غزّة في خمسينيّات القرن الماضي، قد تناولنا حرب جيش الاحتلال الإسرائيليّ على مشافي غزّة والقطاع الصحّيّ فيها، خصوصا أن الفنجريّ بوصفه طبيبًا، قدّم شهادة حيّة عن نهج الاحتلال تجاه القطاع الصحّيّ في القطاع وأغراضه منها في ذلك الحين، وذلك بما يؤكّد، أنّ استهداف جيش الاحتلال للمستشفيات والأطبّاء في حرب الإبادة الدائرة حاليًّا على القطاع ليس بالأمر الجديد.

وفي هذا الجزء من قراءتنا لشهادة الطبيب الفنجري، نحاول فيه تناول سياسات وممارسات جيش الاحتلال في مساحات مختلفة من حياة الغزيّين، منذ مطلع الخمسينيّات قبل احتلاله القطاع وخلاله ما بين تشرين الثاني/نوفمبر 1956 وآذار/مارس 1957 حيث أقام الفنجري في القطاع قبل يغادره في العام نفسه.

كانت ممارسات تلك المرحلة، بمثابة تأسيس لعنف ظلّ استثنائيًّا في درجة وحشيّته من قبل الاحتلال تجاه قطاع غزّة مقارنة بسياساته في باقي الأراضي المحتلّة. وهو ما يدفع قارئ مذكّرات الفنجري إلى سؤال يقول: لماذا كلّ هذه الوحشيّة تجاه غزّة؟ سؤال لم يجب عليه صاحب المذكّرات، لأنّه لم يسأله أصلًا، إنّما حرب الإبادة اليوم هي من تدفع بنا للسؤال، فيما شهادة الفنجري هي من تجيبنا عنه، من ناحية فهم وحشيّة الاحتلال على القطاع بوصفها وحشيّة مبكّرة وممنهجة، وليست مستجدّة وطارئة.

التلويث والتسميم

منذ أن حطّ الطبيب أحمد الفنجري في غزّة أواخر سنة 1953، تحدّث فور وصوله عن تسلّل مجموعة من اليهود المستوطنين في القطاع إلى المدينة ليلًا، يحملون زجاجات لتلويث مياه الشرب بالكوليرا، وقد قبض الأهالي على اثنين منهما، وذلك ضمن سلسلة من محاولات استهداف آبار المياه في غزّة من المستوطنين في حينه. وفي نفس ليالي شتاء نهاية ذلك العام، ضجّ القطاع وأهله بحادثة خطف المستوطنين لأحد حرّاس البيّارات المحيطة بغزّة المدينة، ثمّ قتله، ولم يكتفوا بذلك، إنّما قاموا بتفخيخ جثّة المقتول بحشوها بالقنابل الّتي أودت بحياة بعض مسعفيه.

ويهمل صاحب المذكّرات في شهادته عند تناوله للأحداث ومظاهر ممارسات الصهاينة جيشًا ومستوطنين، توثيقها بالتاريخ واليوم، كما يهمل أحيانًا في أيّ المواقع تحديدًا من القطاع وقعت تلك الممارسات، ممّا يصعب ذلك على القارئ التحقّق من دقّة الأحداث لا من حقيقتها.

ولم تقتصر سياسة التلويث والتسميم على آبار الماء، إنّما طالت الأطفال بشكل مباشر، فيذكر الفنجري قيام جيش الاحتلال بعد احتلاله القطاع أواخر سنة 1956: "ولكنّهم لم يرحموا حتّى الأطفال، فقد كانت دوريّات الجيش تلقي في الليل أمام بيوت اللاجئين بعض قطع الحلوى الملوّثة، فإذا أكلها الأطفال في الصباح أصيبوا بالتسمّم، وكثيرًا ما كانوا يلقون بهدايا صغيرة على شكل أقلام حبر أو لعب أطفال، فإذا ما أمسك بها الطفل ليلعب بها انفجرت في يديه وبترت أصابعه".

ولمّا رفض قسّ كنيسة غزّة أبونا حنّا النمري التعاون مع الاحتلال على أثر حرب العدوان الثلاثيّ، وفيما رافق الأطفال عوائلهم المسيحيّة الغزيّة إلى الكنيسة صباح يوم عيد الميلاد المجيد نهاية عام 1956، "فإذا بهم يجدون الهدايا والألعاب وقطع الحلوى على عتبات أبواب الكنيسة ومدخلها، فأكلوا الحلوى وأصيبوا بالتسمّم، وفتحوا الهدايا فانفجرت فيهم، وقطعت تلك المتفجّرات يدي طفلة صغيرة في الرابعة من عمرها وشوّهت وجهها".

فلسطينيّات في قطاع غزّة بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيليّ عام 1957 (Getty)

كما تحدّث الطبيب الفنجري عن محاولات الاحتلال نشر الأوبئة بين اللاجئين في المخيّمات، فيروي أنّه بعد أن ذاع خبر انتشار وباء الجدري في لبنان عبر الراديو، توجّس الأطبّاء في القطاع من انتقال العدوى من خلال الفدائيّين القادمين من لبنان عبر الأردنّ إلى قطاع غزّة. بادر الطبيب الفنجري وزملاؤه بطلب مكتوب ومستعجل إلى وكالة غوث اللاجئين كي تمدّهم بمصل ضدّ الجدري، ولمّا وصلت أوّل دفعة من مصل الجدري إلى القطاع، يقول الفنجري تبيّن أنّ المصل من صنع إسرائيل، فامتنع الأطبّاء عن استخدامه بعد أن شكّوا بصلاحيّته، غير أنّ طبيبًا هولنديًّا يعمل مع وكالة غوث اللاجئين أصرّ على حقن أطفال المخيّمات به.

رفض الأطبّاء العرب، إلّا بعد أن تمّ حقن الطبيب الهولنديّ به كتجربة أولى، ولمّا تمّ حقنه وساءت صحّته في اليوم التالي، وكان أحد أطبّاء الوكالة يدعى الدكتور "جرتتنباغ" قد أخذ عيّنة من المصل، وتوجّه بها إلى تلّ أبيب، ومنها إلى بيروت من أجل التحقّق من صلاحيّته، وبعد يوم من وصوله بيروت أصدر الدكتور جرتنباغ أمرًا مستعجلًا إلى الطبيب الفنجري يقول فيه: "المصل ملوّث... أعدم الكمّيّة الّتي عندك"، إذ تبيّن أنّ المصل منتهي الصلاحيّة، ويعود إلى عام 1952، وقد تعمّد الصهاينة إرساله إلى غزّة وكاد يتسبّب بمأساة إنسانيّة، يقول الفنجري.

التطييف

تتضمّن شهادة الدكتور الفنجري، إشارة لافتة متّصلة بمسيحيّي مدينة غزّة، ومحالة الصهاينة تجنيدهم للتعاون مع الاحتلال في القطاع إثر حرب العدوان الثلاثيّ.

ويورد صاحب المذكّرات في شهادته رواية عن قيام حاخامات يهود في مطلع شهر كانون الأوّل/ديسمبر 1956 بزيارة إلى كنيسة غزّة مدّعين بأنّهم يسعون إلى تقارب يهوديّ – مسيحيّ، وقد استقبل القسّ العروبي حنّا النمري الوفد في الكنيسة، وطلب الحاخامات منه أن "يقيم الزينات والأفراح، وأن يجعل الاحتفال بعيد الميلاد المجيد في هذه السنة (أي 1956) أروع منه وأعظم من كلّ سنة ماضية"، وأبلغوه بأنّ إذاعة إسرائيل وصحافتها سوف يشتركون معه بإذاعة خطابه، وذلك في سياسة كانت ترمي إلى إثارة حفيظة النعرة الطائفيّة الّتي لم يعرفها أهالي المدينة يومًا.

أطفال فلسطينيّون بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيليّ من قطاع غزّة عام 1956

رفض أبونا حنّا قائلًا "هل يمكنني كرجل دين أن أقيم مثل تلك الاحتفالات ودماء الضحايا والشهداء من أبناء بلدي لم تجفّ بعد؟ سأجعله يومًا حزينًا، ولن أحتفل بالميلاد إلّا في ظلّ الحرّيّة". يقول صاحب الشهادة ما تناقله أهالي غزّة على لسان أبونا حنا، وطرده وفد الحاخامات من الكنيسة.

بعد أسابيع قليلة، وقعت حادثة الحلوى المسمّمة والألعاب الملغّمة على عتبات أبواب الكنيسة صبيحة يوم عيد الميلاد المجيد انتقامًا من القسّ حنّا وموقفه، وخرجت يومها مظاهرة من الكنيسة يقودها أبونا حنّا النمري بهتافه "عاشت المسيحيّة مع الإسلام، ولتسقط الصهيونيّة المجرمة".

وظلّ حنّا النمري القسّ على مدار أسابيع يسير في أسواق غزّة ويحمل بين ذراعيه طفلة، كانت تلك الطفلة هي الّتي تشوّهت بعد أن انفجرت في وجهها إحدى الألعاب الملغّمة على باب الكنيسة صباح يوم عيد الميلاد المجيد. وذلك إلى أن ترصد مستوطنون يهود القسّ حنّا، بينما كان يسير في أحد شوارع غزّة ومعه الطفلة، فأطلقوا عليه الرصاص، غير أنّ القسّ نجا يومها، بينما استشهدت الطفلة بين ذراعيه بعد أن أصابتها رصاصة أحد المستوطنين اليهود.

في الأخير

لم يترك الفنجري ممارسة مارسها الصهاينة على القطاع في ظلّ إقامته فيه ما بين 1953-1957 إلّا وقد أشار إليها، في محاولة منه لرصد نقمة جيش الاحتلال ومستوطني القطاع على غزّة وأهلها، المدينة والمخيّمات تحديدًا، وقد كان الطبيب الفنجري من بين ضحايا تلك الممارسات، إذ جرى اعتقاله من قبل جيش الاحتلال ونقله للتحقيق معه في سجن عتليت كما يروي، حول سياسة منع التجوّل، والتطويق وتجميع سكّان المخيّمات في الساحات، وزجّ الرجال بمن فيهم أطفال طوابير إلى أماكن مجهولة، وتبيّن لاحقًا بأنّه تمّ إعدامهم كما كشف وفضح سيل شتاء منتصف آذار/مارس سنة 1957، وكذلك الاغتصاب المتعمّد للنساء، وتلك ممارسة يشهد الفنجري عليها بأمّ عينيه الّتي كان يمارسها بعض جنود الاحتلال بحقّ بعض فتيات مخيّمات القطاع، وتلغيم أحواش البطاطس بالقنابل من قبل جيش الاحتلال أثناء إنهائه احتلال القطاع في مطلع آذار/مارس 1957، الأمر الّذي تسبّب بفاجعة بعد خروج الناس إلى أحواشهم.

كما يشير الفنجري في ظلّ تلك الممارسات إلى مقاومتها الّتي لم تنضب يومًا واحدًا في القطاع، مقاومة الفدائيّين للاحتلال، وبسالتهم إلى جانب بعض الضبّاط المصريّين في مواجهة دبّابات جيش الاحتلال، خصوصًا في خان يونس الّتي أبت رفع العلم الأبيض للاحتلال في حرب العدوان الثلاثيّ بعد سلمت غزّة المدينة، وسقطت بأيدي الصهاينة في كانون الثاني/نوفمبر 1956.

تظلّ شهادة الطبيب أحمد شوقي الفنجري التي دوّنها في مذكّراته، شهادة حيّة تزخر بالتفاصيل المزعجة الّتي مارسها الاحتلال في خمسينيّات القطاع من القرن الماضي، ومشرّفة في الوقت لنفسه من ناحية دور غزّة الفدائيّة المبكّر في مقارعة جيش الاحتلال، غير أنّ شهادة الفنجري تحيلنا في ظلّ حرب الإبادة الدائرة على القطاع وأهله هذه الأيّام إلى طبيعة إجرام الاحتلال المبكّر على درجة استثنائيّة من الوحشيّة تجاه القطاع منذ تلك المرحلة، حيث كان الغرض الأساس هو مخطّط تهجير أكبر عدد ممكن من لاجئي مخيّمات القطاع إلى خارجه، وقد أسقط الغزيّون ذلك المخطّط، وسيسقطونه في كلّ وقت وحين.