أشار تقرير نشرته صحيفة "نيويورك بوست" تحت عنوان "لماذا يصوّت الأميركيّون من أصل أفريقيّ، في النهاية لصالح مصالحهم؟"، إلى مشكلة يعانيها الحزب الديمقراطيّ، والتي تتعلّق بالدعم المتزايد للرئيس السابق دونالد ترامب من قبل الأميركيّين من أصل أفريقيّ، وخاصّة الذكور. ويضيف التقرير أنّه وبالرغم من الحملة الإعلاميّة المستمرّة على مدار الساعة وطوال أيّام الأسبوع، والّتي استمرّت قرابة 8 سنوات لوصف المرشّح الجمهوريّ ترامب بالعنصريّ، إلّا أنّه على وشك الحصول على أعلى نسبة من أصوات الأميركيّين من أصل أفريقيّ منذ خمسين عامًا.

على الرغم من أنّ الولايات المتّحدة انتخبت أوّل رئيس لها من أصل أفريقيّ في عام 2008، ولديها الآن أوّل مرشّحة سوداء للرئاسة، فقد يتساءل كثيرون لماذا ازدهرت أحوال الأميركيّين السود أكثر في ظلّ إدارة ترامب مقارنة بسنوات أوباما/بايدن وبايدن/هاريس؟

تشير التقارير إلى أنّه في ذلك الوقت، كان ما يقرب من 80% من الأسر لديها والدان؛ واليوم، يعيش ما يقرب من 80% من الأسر في منازل بدون أب. والأسوأ من ذلك، أنّ دراسة حديثة أجرتها كاساندرا دوريوس في جامعة ميشيغان كشفت أنّ "الخصوبة المتعدّدة الشركاء" أصبحت هي القاعدة بين الأسر السوداء. وأظهر عملها أنّ 59% من الأمّهات الأميركيّات من أصل أفريقيّ لديهنّ أطفال من آباء مختلفين، وهي أعلى نسبة بين أيّ مجموعة عرقيّة، وأشارت دوريوس إلى أنّ "تربية الأطفال الّذين لديهم آباء مختلفون يشكّل عاملًا رئيسيًّا في انتقال الحرمان بين الأجيال".

وعلى الرغم من ولاء الأميركيّين السود المستمرّ للحزب الديمقراطيّ، يزعم كثيرون أنّ مجتمعاتهم اليوم أسوأ حالًا؛ ممّا كانت عليه عندما تمّ توقيع قانون الحقوق المدنيّة الأخير في عام 1968.

تأتي تلك الأخبار بعد أكثر من 150 سنة على حصول الأميركيّين من أصل أفريقيّ على حقّ التصويت في الولايات المتّحدة. وتأتي تلك كواحدة من النتائج على طريق التحرّر من العبوديّة إلى الحقوق المدنيّة لذوي البشرة السمراء.

الطريق إلى الحريّة

لقرون طويلة مرّ الأميركيّون الأفارقة بتحوّلات كبرى بدأت بالعبوديّة مرورًا بحركة الحقوق المدنيّة. وتعدّ المحطّات التاريخيّة للتحرّر منذ العبوديّة إلى اليوم مليئة بالتحوّلات والتغيّرات الجذريّة.

بدأت العبوديّة منذ القرن السابع عشر عندما تمّ "جلب" البشر من أفريقيا إلى الولايات المتّحدة وأميركا الشماليّة عن طريق التجّار الأوروبّيّين إلى جيمس تاون في فرجينيا في الولايات المتّحدة عام 1619. تمّ جلب أولئك العبيد في البداية للعمل في المجال الزراعيّ، خاصّة محاصيل القطن والتبغ بدون مقابل، ونتيجة لذلك، تحوّلت العبوديّة إلى صناعة كبيرة ومؤسّسة اقتصاديّة في الجنوب الاميركيّ، حيث اعتمدت تلك الزراعات بشكل كلّيّ على الأفارقة "المستوردين" للعمل بشكل قسريّ.

توسّع النظام في القرون اللاحقة، وأصبح جزءًا أصيلًا من مجتمع الجنوب الأميركيّ. حياة الأفارقة لم تكن بالسهلة، بل كانت مليئة بالقسوة والظلم، فقد كانت أسواق النخاسة منتشرة، وكان العبيد يباعون ويشترون كأيّ سلعة أخرى، ناهيك عن ظروف عمل قاسية وعنف جسديّ ونفسيّ ولفظيّ. في الفترات الأولى يقدّر أنّ عدد الأفارقة الّذين تمّ جلبهم 12.5 مليون إلى الأميركيّتين، وتمّ نقل أكثر من 380 ألفًا منهم إلى المستعمرات الأميركيّة الّتي أصبحت لاحقًا الولايات المتّحدة.

بدأ التغيّر مع الحرب الأهليّة بين الشمال والجنوب الأميركيّ 1861 - 1865 والّتي كانت العبوديّة من أهمّ مسبّباتها. في ذلك الوقت عارضت الولايات الشماليّة العبوديّة، بينما دافعت الولايات الجنوبيّة عن "حقوقها" في الاحتفاظ بأولئك العبيد لكونهم حجر أساس في الاقتصاد الجنوبيّ وخاصّة الاقتصاد الزراعيّ. وتعدّ الحرب الأهليّة من أكثر الصراعات دمويّة في التاريخ الأميركيّ، فقد قتل أكثر من 700 ألف شخص، ومات الكثير من الجنود والمدنيّين بالملاريا والتيفوئيد.

في العام 1863 أصدر الرئيس الاميركيّ أبراهام لينكولن، الرئيس السادس عشر للولايات المتّحدة، إعلان تحرير العبيد والّذي بدوره حول البلاد إلى ساحة حرب أهليّة، وبالرغم من إعلان التحرير قد شمل العبيد في الولايات "المتمرّدة" في الجنوب، إلّا أنّ العبيد لم يتحرّروا بشكل كامل حتّى العام 1865 بعد نهاية الحرب الأهليّة، حيث انتهت الحرب بانتصار الولايات الشماليّة الّتي كانت تعرف باسم الاتّحاد، وكانت من أهمّ النتائج للحرب إلغاء العبوديّة بشكل نهائيّ وإعادة توحيد الولايات الجنوبيّة تحت حكومة فيدراليّة واحدة، وإعادة بناء الجنوب ومنح الحقوق للمحرّرين من العبوديّة.

أبراهام لينكولن (Getty)

وفي العام 1865، أصدر الرئيس أبراهام لينكولن إعلان تحرير العبيد حسب التعديل الثالث عشر في الدستور الأميركيّ، والّذي ألغى العبوديّة بشكلها الأساسيّ بشكل كلّيّ، ودخلت الولايات المتّحدة بعد ذلك في إعادة الإعمار للعمل على منح العبيد في الجنوب حرّيّتهم ودمج العبيد المحرّرين في المجتمع، وتمّ تمرير تعديلات دستوريّة مثل التعديل الرابع عشر الّذي منح المواطنة لكلّ من "ولد" في الولايات المتّحدة، والتعديل الخامس عشر الّذي منح الرجال السود حقّ التصويت.

وعلى الرغم من انتخاب عدد من السود في مناصب حكوميّة مهمّة مثل الكونجرس، إلّا أنّ تلك الإجازات واجهت مقاومة من ولايات الجنوب الّذين أسّسوا منظّمات مثل "كو كلوكس كلان" الّتي نفّذت جرائم إرهاب وقتل تجاه السود للحفاظ على تفوّق العرق الأبيض.

الفصل العنصريّ

انتهت إعادة الإعمار في عام 1877، وبدأت فترة جديدة في تاريخ السود في الولايات المتّحدة. في تلك السنة تمّ إصدار ما يعرف بـ"قوانين جيم كرو"، وتعدّ تلك القوانين من أوائل الأنظمة العنصريّة "الممنهجة"، حيث فرضت تلك القوانين "فصل" السود عن البيض في جميع أنحاء الجنوب الأميركيّ، وذلك يشمل المدارس والمواصلات العامّة والمطاعم والأماكن العامّة، وبالطبع، فقد تأسّست تلك القوانين مع سياسات قمع حرمت السود الأميركيّين من حقوقهم المدنيّة والسياسيّة المكفولة بالدستور.

في ذلك الوقت ازدادت حالات شنق العبيد بدون محاكمة Lynching، وأصبحت من الوسائل الّتي يستخدمها البيض، وأصبح الإعدام خارج القانون وسيلة شائعة لترهيب الأميركيّين الأفارقة ومنعهم من تحدّي النظام الاجتماعيّ العنصريّ. أدّى ذلك إلى قتل آلاف الأفارقة، وكانت النسب الأعلى في ولايات ميسيسيبي ولويزيانا وألاباما، وفي ذلك الوقت، واجه الأفارقة الكثير من القيود والعنصريّة، وكانت فرص التعليم والعمل محدودة جدًّا. واستمرّ الحال حتّى القرن العشرين.

حركة الحقوق المدنيّة

في ستّينات القرن الماضي بدأت حركات الحقوق المدنيّة بالتشكّل، وتعدّ تلك الحركات ردّ فعل على نظام الفصل العنصريّ والتمييز ضدّ السود، وتعتبر منظّمات مثل "مؤتمر القيادة المسيحيّة الجنوبيّة" و"جمعيّة مونتغمري" بالإضافة إلى القياديّين مثل مارتن لوثر كينج الابن ومالكوم إكس، وروزا باركس من الّذين يعدّون رموزًا وضعوا حجر الأساس لحركة الحقوق المدنيّة.

روزا باركس (Getty)

بدأ الأمر مع اعتقال روزا باركس في عام 1955 عندما رفضت أن تتخلّى عن مقعدها في حافلة مواصلات عامّة إلى رجل أبيض، وبحسب قوانين جيم كرو، فإنّ ذلك أدّى إلى اعتقالها من قبل السلطات. أثار اعتقال باركس غضب الأميركيّين الأفارقة ونتج عن ذلك مقاطعة لشركة الحافلات استمرّ لمدّة 381 يومًا، واستبدل الأفارقة الحافلات بوسائل نقل مشتركة خاصّة بهم أو بالمشي، ووضعت حركة المقاطعة شركة الحافلات والسلطات تحت ضغط كبير بعد تدنّي الإيرادات بشكل كبير.

في آب/أغسطس 1963 تجمّع أكثر من 250 ألف شخص أمام النصب التذكاريّ لأبراهام لينكولن في واشنطن للمطالبة بحقوقهم في المساواة مع البيض، وظهر في ذلك التجمّع الخطاب الشهير للناشط مارتن لوثر كينج "لديّ حلم". واستمرّ لوثر كينج كرمز للنضال ضدّ العنصريّة، وكانت من أهمّ إنجازاته، بالإضافة إلى قيادة مقاطعة مونتغمري، تأسيس مؤتمر القيادة المسيحيّة الجنوبيّة لتنسيق العمل السلميّ للنضال من أجل الحقوق المدنيّة، وقانون الحقوق المدنيّة نتيجة للضغط الكبير من حركات الحقوق المدنيّة، والّذي يعدّ ركيزة أساسيّة وإنجازًا كبيرًا، وقانون التصويت بعد مسيرة "سيلميّ إلى مونتغمري" Selma to Montgomery Marches.

وانتهى الأمر باغتيال كينج في 4 نيسان/أبريل 1968، في مدينة ممفيس في ولاية تينيسي، عندما كان يشارك في حملة لدعم عمّال الصرف الصحّيّ المضربين. ويشكّل اغتياله حدثًا كبيرًا في تاريخ الولايات المتّحدة، وأدّى إلى احتجاجات واسعة وأعمال شغب في مدن عديدة.

وشكّل قانون الحقوق المدنيّة 1964 الّذي وقّعه الرئيس الأميركيّ ليندون جونسون، واحدًا من أهمّ التشريعات في تاريخ الولايات المتّحدة، حيث حظر القانون التمييز في الأماكن العامّة وأماكن العمل على أساس العرق أو اللون أو الدين أو الجنس. وفي عام 1965، تمّ تمرير قانون حقّ التصويت الّذي ألغى المعيقات التي منعت السود من التصويت، مثل اختبارات الأمّيّة، والضرائب على التصويت، وهي ضرائب اقتراع تُجبى في الولايات الجنوبيّة لمنع الفقراء وخاصّة السود من التصويت.

"حياة السود مهمّة"

استمرّ التطوّر والتقدّم في مجال الحقوق المدنيّة للسود في الولايات المتّحدة منذ السبعينات إلى يومنا هذا، إذ استطاع الأميركيّون الأفارقة من تحصيل حقوق أوسع في التعليم والعمل، ومع أنّ التقدّم كان بطيئًا، كما يشير بعض الخبراء، ولا تزال هناك الكثير من التحدّيات، إلّا أنّ محطّات مهمّة تشكّلت، مثل انتخاب باراك أوباما لولايتين متتاليتين، حيث يرى البعض أنّ انتخاب أوباما يعدّ تتويجًا مهمًّا لجهود حركات الحقوق المدنيّة منذ الستّينات.

(Getty)

وتعدّ حوادث قتل السود على يد الشرطة الأميركيّة أهمّ التحدّيات الّتي تواجهها حركات الحقوق المدنيّة، وبالرغم من حساسيّة الموضوع خاصّة في الولايات المتّحدة، إلّا أنّ التقارير تشير إلى أرقام مرتفعة. مثلًا، التقرير الصادر عن Mapping Police Violence يشير إلى قتل الشرطة الأميركيّة 1134 خلال عام 2021 كان منهم 241 من السود، أي ما يعادل 21% تقريبًا، على الرغم من أنّ السود يشكّلون 13% من عدد السكّان فقط، وتشير التقارير إلى فجوة بين الأعراق فيما يتعلّق بعمليّات القتل. وتشير التقارير إلى أنّه في العام 2020، بينما كان الأميركيّون الأفارقة يشكّلون حوالي 13% من سكّان الولايات المتّحدة فقط، إلّا أنّهم يمثّلون 33% من نزلاء السجون، بالإضافة إلى أنّ الرجال السود لديهم فرصة أن يتمّ سجنهم بمعدّل 5 أضعاف مقارنة بالرجال البيض.

تعتبر حركة "حياة السود مهمّة" من أهمّ تجلّيات حركات الحقوق المدنيّة في العقد الأخير. بدأت الحركة في عام 2013 بعد عدد من حوادث قتل السود على يد رجال الشرطة البيض، فتأسّست الحركة كردّ فعل على تلك الحوادث للمطالبة بالعدالة والمساواة، وتوسّعت الحركة مؤخّرًا، لتتحوّل إلى قوّة سياسيّة وثقافيّة كبيرة، خاصّة بعد اندلاع الاحتجاجات الواسعة، والتي طالت جميع الولايات الأميركيّة.

من هذه الحوادث كان مقتل جورج فلويد في أيّار/مايو 2020، على يد شرطيّ أبيض، في مدينة مينيابوليس في ولاية مينيسوتا، وتعدّ وفاته الشرارة الأولى لمجموعة واسعة من الاحتجاجات. الضابط الّذي اعتقل فلويد، ديريك شوفين، من شرطة مينيابوليس، وضع ركبته على رقبة فلويد لمدّة تزيد عن 9 دقائق، بالرغم من تكرار فلويد أنّه لا يستطيع التنفّس، وعلى إثر ذلك، فقد فلويد حياته واندلعت الاحتجاجات، وتمّ الحكم على الضابط شوفي بتهم القتل من الدرجة الثانية والقتل غير العمد من الدرجة الثالثة في نيسان/أبريل 2021، وتمّ الحكم عليه بالسجن لمدّة 22 عامًا، كما تمّ توجيه اتّهامات لثلاثة ضبّاط آخرين شاركوا في الاعتقال، وتمّت محاكمتهم في قضايا منفصلة.

وفاة فلويد أججت احتجاجات كبيرة وواسعة، وأصبحت عبارة "لا أستطيع أن أتنفّس" شعارًا لاحتجاجات ضخمة رافضة للتمييز العنصريّ والاستخدام المفرط للقوّة من قبل الشرطة خاصّة ضدّ السود، ويرى الخبراء أنّ وفاة فلويد كانت نقطة تحوّل في حركات الحقوق المدنيّة الحديثة، لتعيد تسليط الضوء على العنف ضدّ السود من قبل الشرطة.

الطريق من العبوديّة إلى التحرّر الكامل والمساواة لا يزال طويلًا كما يشير بعض الخبراء. ولكنّ هذا الطريق مرّ بمحطّات تاريخيّة كبيرة مثل القوانين والتشريعات الّتي تغيّرت تحت الضغط "السلميّ" وظهرت رموز كبيرة مثل مارتن لوثر كينج وآخرون. وبالرغم من وجود الكثير من التحدّيات، إلّا أنّ تلك الحركات تمثّل رمزًا مهمًّا للوقوف في وجه الظلم والفساد وعدم المساواة بين الناس. بالرغم من اغتيال مارتن لوثر كينج، إلّا أنّه يعتبر اليوم رمزًا للنضال من أجل حقوق الإنسان ولا يزال إرثه وأفكاره موجودة حتّى اليوم.