قبل فوز دونالد ترامب، انشغل العالم بالانتخابات الأميركية، واجتاح التوتر قادة الدول، بين من ينتظر عودته ومن يخشى ذلك. واجتهد المحللون والمراقبون في تقديم التوقعات حول احتمالات فوز أي من المرشحين. وبعد فوزه دخلوا مرة أخرى في حالة ترقب وتكهنات وتخمينات بخصوص طبيعة سلوكه القادم والتوجهات والقرارات التي قد يتخذها بشأن قضايا تؤثر مباشرة في العلاقات الدولية. كل ذلك بسبب سماته الشخصية الشاذة والخطيرة، إذ يصعب استشراف مواقفه وسياساته بشأن قضايا مهمة، داخلية وكونية، خصوصا الحرب الروسية - الأوكرانية والتنافس مع الصين، وأخرى ذات أهمية خطيرة منها قضية فلسطين والشرق الاوسط، الذي يشكل فيه برنامج إيران النووي ومشروعها في المنطقة، ودعهما لحركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية، محورا في التجاذبات والصدام.

تابعوا تطبيق "عرب ٤٨"... سرعة الخبر | دقة المعلومات | عمق التحليلات

وكان أكثر المبتهجين بعودة ترامب بنيامين نتنياهو وائتلافه اليميني الفاشي، إذ يعولون على استئنافه سياساته المتماهية مع المشروع التوسعي العدواني لهذا الائتلاف المسياني الغيبي، والتي كان قد اعتمدها في فترته الأولى في إطار ما سماه بصفقة القرن. كما سبب فوزه ارتياحا وترحيبا لدى الكثيرين من الأنظمة السلطوية والشعبوية، عربية وأوروبية وإفريقية. أما لدى آخرين، فقد أثارت عودته صدمة ورعبا، وخصوصا لدى الحكومات الأوروبية التي تخشى من وقف الدعم الأميركي لحكومة أوكرانيا في الحرب مع روسيا وغيرها من القرارات التي تتعلق بحلف الناتو والتجارة؛ وهي حرب كان يمكن تجنبها وتوفير دماء وأرواح كثيرة، كما كان يمكن وقف الحرب الإبادية الصهيونية الغربية في غزة ولبنان وويلاتها الإنسانية المهولة، لو لم يهدف إلى تغييب قضية فلسطين عن الوجود.

أما بالنسبة لفلسطين وشعبها، فإن عودته لا تُحدث فرقا نوعيا، خاصة بخصوص دعم إسرائيل، عن إدارة جو بايدن التي ارتكبت وترتكب من الفظائع ما لم يكن تخيله من حيث المشاركة في إدارة حرب الإبادة والمحو والإجرام، إذ تواصل تزويد ماكينة الإبادة بالقنابل والأموال والدعم السياسي، هذا فضلا عن تمضية كل الفترة التي سبقت الحرب في تهميش قضية فلسطين وتوفير الحصانة للمشروع الاستيطاني التوسعي، في القدس والضفة الغربية، وهو ما يفسر سياق وخلفيات هجوم 7 أكتوبر.

لقد طالت حرب الإبادة لمدة لم يتوقعها أحد، ويعود ذلك إلى إصرار نتنياهو وحكومته على إطالة عمر الإجرام انتظارا لظروف مواتية تساعده على تحقيق أهدافه المتعلقة بمشروعه التوسعي تحت شعار تغيير الشرق الأوسط، والأهم لصمود المقاومة الفلسطينية واللبنانية، والتفاف غالبية الشعبين حولها. وها هي الظروف المواتية جاءت متمثلة بعودة حليفه ترامب إلى الحكم.

ولكن، يبني محللون كثيرون تصورا مختلفا لسلوك ترامب في فترته الثانية، بناء على تصريحات عامة صدرت عنه بخصوص وقف الحرب في لبنان وفلسطين والتفاوض مع إيران بناء على تصريحات صادرة عنه، بعد إقدام جزء كبير من الجالية المسلمة والعربية على التصويت له، وتقديم تعهد لبعض ممثليها بإنهاء الحرب وتحقيق السلام، إذ كشف صهره، رجل الأعمال اللبناني مسعد بولس، عن هذه المعلومات.

قد يكون ترامب عازما على إحداث تغيير في طريقة إدارته لتلك الملفات، وقد يسمح تكوين شخصيته بحدوث ذلك. لكن حتى لو كانت هذه التصريحات تدعم هذا التحليل أو التوقع عن إمكانية تغيير سلوكه في هذه القضية، فإن لا أحد يستطيع دعم هذا الكلام بأدلة تؤكد إمكانية حدوث تغيير حقيقي. إن التزام ترامب تجعل التفكير باحتمال تغيير حقيقي في المواقف تحت حكم الجمهوريين غير واقعي. صحيح، وحسب مراقبين، فإن ترامب ليس مغرما باليهود ولديه نزعات لاسامية، إنما يدعم بإسرائيل، ولكن أيديولوجية النظام الأميركي المرتبط عضويا بالكيان الإسرائيلي، والواقع المركب للشرق الأوسط، والتحوّل المجتمعي الفاشي في إسرائيل، كما التحول الثقافي والهوياتي، وتعزز الثقافة البيضاء العنصرية في أميركا، كل ذلك يشكل عقبة كبيرة أمام تحول جذري في مواقف ترامب تجاه قضية فلسطين دون قوة مقابلة متحدية. إن ما قد يجبر الإدارات الأميركية، وما يقف وراء هذا التغير المفترض في موقف ترامب على مستوى التصريح، هو ما أبداه الطرف المعتدى عليه، الفلسطيني واللبناني، من استعداد لتحدي المشروع الصهيوني الأميركي، وامتلاك الارادة والنفس الطويل والإصرار على الحق والعدالة.

وربما ما جعل ترامب يفكر أو يتحدث عن نيته إنهاء الحرب وجلب السلام، وإن كان في حدود التصريحات، هو إقدام المقاومة الفلسطينية واللبنانية وحلفاؤهم على تحدي الوضع القائم، وإن بأثمان تنوء لها الجبال.

في هذه الأثناء تواصل ماكينة الإبادة الصهيونية إبادة الناس في غزة ولبنان، بل وتوغل أكثر في الدم الفلسطيني واللبناني، ويتوقع أن تشتد وحشيتها وتمتد الحرب لأسابيع طويلة قبل ظهور بوادر لهذا التغيير المفترض.

إن المرحلة المقبلة القريبة، كما تشي التحركات والتصريحات ووقائع الميدان، هي مرحلة التسويات، وهي تنطوي على مخاطر جسيمة بالنسبة لفلسطين، خصوصا في غياب طرف فلسطيني وطني موحد متفق على آليات التعاطي مع ما سيطرح عليه. لكن ما هو يقيني أن الاستسلام أو التخلي عن الحق والعدالة، ليس خيارا واردا عند الشعب الفلسطيني، كما ليس واردا عند المقاومة اللبنانية. قد يجري التوصل إلى تسوية يفرزها ميزان القوى الحالي لا تستجيب مع جميع مطالب الشعب الفلسطيني أو المقاومة اللبنانية، ولكنها قد تشكل فرصة لالتقاط الأنفاس، والمراجعة النقدية الضرورية للإستراتيجيات والوسائل، وفرصة لتصعيد الجهود لإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية ومشروعها، التحرري الديمقراطي. وهذه المراجعة ستحتاج للعودة إلى المقاربة النهضوية للخلاص، المستندة إلى شرط التحرر الداخلي كمقدمة للتحرر الخارجي، فلسطينيا وعربيا.