يُمثّل فوز الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في انتخابات 2024 بداية رحلة أخرى تحشدُ بالتقلبات في السياسة الخارجية الأميركية. ويبدو أن الرئيس المنتخب[1] يستعد لاستعادة السمات المميزة لولايته الأولى: حرب تجارية مع الصين، وارتيابٌ عميق - بل وعداء - تجاه التعددية، وولعٌ بالرجال الأقوياء، وأسلوب دبلوماسية إبرام الصفقات عبر التغريدات الارتجالية. قال مستشارو ترامب إن نهجه في تطبيق «السلام عبر إظهار القوة» هو ما تحتاجه الولايات المُتحدّة في هذه اللحظة الحرجة.
لكن ولايته الثانية تنطوي على تحديات جديدة ليس أقلها الحربين في الشرق الأوسط وأوكرانيا، اللتين تتورط فيهما الولايات المتحدة مباشرةً. وعدَ ترامب بإنهاء الحرب في أوكرانيا حتى قبل تولّيه منصبه، لكنه لم يقدم بعد أي خطة مفصلة، كما أن خططه لإحلال السلام في الشرق الأوسط غامضة بالقدر نفسه. ورغم أن خططه قد تكون غير واضحة، فقد تناولت مجلة فورين بوليسي سجله السياسي وكذلك تصريحاته وتصريحات مستشاريه لتقديم إطلالة على ما يحمله مستقبل السياسة الخارجية الأميركية. وكما أظهرت فترة ولاية ترامب الأولى، فإن نزواته الشخصية غالبًا ما تتناقض مع أجندة مستشاريه، وهذه المرة، قد تكون قبضته على عجلة القيادة أكثر إحكامًا كرئيس للمرة الثانية، ومن المرجح أن يكون مدعومًا بدائرة أكثر ولاءً من المستشارين.
إليكم لمحة عن المستقبل في ظل ولاية دونالد ترامب الثانية:
الصين
سيكتفي الرئيس جو بايدن بتسليم الشُّعلة إلى ترامب في ما يرتبط بقضايا الصين، حيث ورثت الإدارة الحالية الكثير من نهج ترامب الأكثر صرامة تجاه الصين خلال ولايته الأولى، ومن المرجح أن يواصل ترامب خلال ولايته الثانية النظر للصين باعتبارها التحدي الأكبر للأمن القومي للولايات المتحدة. ولكن في ما يتصل بقضايا محددة، وبالتأكيد الأسلوب العام، فإن ولاية ترامب الثانية سوف تجلب معها تغييرات كبيرة.
وكما كان الحال في ولايته الأولى، ركّز ترامب في المقام الأول على التجارة. وقال لصحيفة وول ستريت جورنال في مقابلة أجريت معه في تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي إن «الرسوم الجمركية» (Tariff) هي «الكلمات الأكثر جمالًا في القاموس»، وإن أولويته الأكثر وضوحًا في ما يتعلق بالصين هي إعادة إطلاق الحرب التجارية التي بدأها في عام 2018.
ويدعو موقع حملة ترامب الانتخابية إلى خفض اعتماد الولايات المتحدة على الصين في الحصول على جميع السلع الأساسية. وهذه هي البداية فحسب. حافظ بايدن على الرسوم الجمركية الأصلية التي فرضها ترامب، وأضاف بعض الرسوم الإضافية، ويبدو ترامب على استعداد للذهاب إلى أبعد من ذلك بكثير. ومن خلال فرضه رسومٍ جمركية بنسبة 60% على الأقل على جميع الواردات من الصين، فإن ترامب يقترب من تحقيق الانفصال الكامل بين أكبر اقتصادين في العالم، وهو ما تبنَّاه بعض أقرب مستشاريه.
ومن شأن هذه الخطوة أن تؤدي إلى تفاقم العلاقات الثنائية المتوترة بالفعل، وتكلف الأسر الأميركية آلاف الدولارات سنويًا، وتحرم المصدّرين الأميركيين من واحدة من أكبر أسواقهم. كما من شأن التأثيرات المترتبة على سياسة تجارية عدوانية تجاه الصين أن تؤدي أيضًا إلى إضعاف أصدقاء وحلفاء محتملين آخرين للولايات المتحدة.
ما تزال الصين تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الصادرات لدفع نموها، والتدابير المصممة لإضعاف هذا المحرك الرئيسي للنمو، مثل الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب، من شأنها أيضًا أن تضعف الطلب الصيني على موارد التصنيع، بما في ذلك الطاقة والمعادن. وسوف يكون هذا سيئًا لجيران الولايات المتحدة مثل بيرو وتشيلي والمكسيك (وهي كلها دول كبيرة مصدرة للنحاس إلى الصين)، ولحليفة الولايات المتحدة أستراليا (وهي مصدر كبير لخام الحديد والفحم)، وللمملكة العربية السعودية الصديقة والعدو، وهي مصدر كبير للنفط الخام إلى الصين.
أدى استخدام الرسوم الجمركية على الصين في فترة ولاية ترامب الأولى إلى التوصل إلى اتفاق ثنائي وصفه بأنه «أكبر اتفاق شهده أي شخص على الإطلاق». وكان الهدف من هذه الاتفاقية هو تعزيز الصادرات الزراعية والطاقة الأميركية إلى الصين، ولكنها لم تقترب أبدًا من تحقيق أهدافها. ويمكن أن يكون إحياء اتفاق المرحلة الأولى (Phase One trade deal) نقطة البداية لاتفاق جديد في ظل إدارة ترامب الجديدة، وفقًا لمعهد أميركا أولًا للسياسات (America First Policy Institute)، وهو مؤسسة فكرية تابعة لترامب.
إذا كان الغرض من الضرائب المرتفعة للغاية على الواردات هو إجبار الصين على إصلاح ممارساتها التجارية والاقتصادية، وهو الهدف الظاهري الذي لم يتحقق إبَّان فترة ولاية ترامب الأولى، فإن سياساته التجارية الأخرى من شأنها أن تجعل ذلك أكثر صعوبة. وسوف تتعرض سياسة التسلط على الصين للتقويض من خلال التعامل مع الأصدقاء والحلفاء بالطريقة نفسها التي تعامل بها خلال ولايته الأولى. وتعهد ترامب بفرض رسوم جمركية تصل إلى 20 بالمئة على جميع الدول الأخرى، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي. ولن يؤدي هذا إلى فرض إجراءات انتقامية فورية ومدروسة جيدًا على الصادرات الأميركية فحسب، مما يزيد من إضعاف آفاق الاقتصاد الأميركي، بل من شأنه أيضًا أن يثبط آفاق تشكيل تحالف كبير من الاقتصادات الكبرى وقادر على فرض ضغوط منسقة على بكين للحد من انتهاكاتها التجارية الأكثر فظاعة.
وبعيدا عن التجارة، ربما تكون نقطة الانطلاق الأكبر لترامب من إدارة بايدن هي تايوان. أبدى ترامب خلال حملته الانتخابية مرارًا وتكرارًا ارتيابه حول أفق الدعم الأميركي في المستقبل، وطبق نفس النهج المعاملاتي (Transactional)، الذي اتبعه مع العديد من البلدان، مع الجزيرة. وقال في مقابلة أجريت معه في شهر يوليو/تموز الماضي مع مجلة بلومبرغ بيزنس ويك: «يجب على تايوان أن تدفع لنا مقابل الدفاع. كما تعلمون، نحن لا نختلف عن شركات التأمين... تايوان لا تعطينا أي شيء».
وقد دفعت مثل هذه التصريحات بعض الخبراء في الشؤون الصينية إلى الاعتقاد بأن ترامب سوف يسعى إلى التوصل إلى نوع من الاتفاق مع تايوان في مقابل المزيد من الدعم الدفاعي الأميركي. ويبلغ الإنفاق العسكري في تايوان نحو 2.6% من الناتج المحلي الإجمالي اليوم، وقد يطلب ترامب من الجزيرة زيادة هذا الرقم، كما اقترح مستشار الأمن القومي السابق لترامب روبرت أوبراين (Robert O’Brien) والمسؤول الدفاعي الكبير إلبريدج كولبي (Elbridge Colby). استثمرت شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة (TSMC)، عملاق أشباه الموصلات التايوانية، بالفعل أكثر من 65 مليار دولار في مصانع جديدة تقع في ولاية أريزونا، لكن خبراء تايوانيين قالوا لمجلة فورين بوليسي إن ترامب قد يدفع نحو المزيد من الاستثمار المحلي.
ورغم أن ترامب قد مفاوضًا صعبًا، فمن غير المرجح أن يتخلى فعليًا عن دعمه لتايوان. ومن بين مستشاريه المحتملين وزير الخارجية السابق مايك بومبيو (Mike Pompeo)، وهو مؤيد قوي لتايوان ودعا إلى الاعتراف الرسمي باستقلال تايوان. تمسك ترامب في المقابلات بسياسة الغموض الإستراتيجي التي تنتهجها الولايات المتحدة منذ فترة طويلة عندما سُئل عما إذا كان الجيش الأميركي سيدافع عن تايوان في حالة وقوع هجوم أو حصار صيني. إن عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات ترامب الشخصية يوفر أيضًا طبقة خاصة من الغموض، سواء كانت إستراتيجية أم لا. عندما سُئل ترامب هذا السؤال في مقابلته مع صحيفة وول ستريت جورنال في أكتوبر/تشرين الأول، أجاب: «لن أضطر إلى ذلك، لأن [الرئيس الصيني شي جين بينغ] يحترمني ويعرف أنني مجنون».
وسوف تؤثر الأصوات التي سيكون لها تأثير كبير في حكومة ترامب أيضًا على سياسة إدارته تجاه الصين. وكما ذكرت مجلة فورين بوليسي في وقت سابق، فإن صقور[2] الحزب الجمهوري المناهضين للصين منقسمون بشأن مدى المنافسة الوجودية مع الصين، إلى جانب أسئلة رئيسة أخرى، بما في ذلك مدى الفصل بين الاقتصادين. وكما حدث في فترة ولاية ترامب الأولى، فمن المؤكد أن خطوط المعركة هذه ستنتقل إلى البيت الأبيض.
ومن المؤكد أن علاقات ترامب الشخصية سوف تؤثر على السياسة أيضًا. وقد أعرب الرئيس المنتخب مرارًا وتكرارًا عن إعجابه بشي. وقال لصحيفة بيزنس ويك «أحترم الرئيس شي كثيرًا. تعرفت عليه جيدًا. وأعجبني كثيرًا. إنه رجل قوي، وأعجبني كثيرًا». لقد أظهرت فترة ولاية ترامب الأولى استعداده لمقاومة سياسة إدارته لصالح نوعه الخاص من السياسات الشخصية مع شي، وقد يحدث هذا مرة أخرى في السعي إلى التوصل إلى اتفاق تجاري ثان.
— ليلي بايك (Lili Pike) وكيث جونسون (Keith Johnson)
الشرق الأوسط
ما لم يتم حل حروب إسرائيل مع حماس في غزة وحزب الله في لبنان بشكل كامل قبل تنصيب ترامب –وهو أمر غير مرجح– فإن إحدى القضايا الأكثر إلحاحًا في السياسة الخارجية على مكتبه ستكون التوترات المتصاعدة في الشرق الأوسط. وتحدّث الرئيس المنتخب عن ضرورة إنهاء الحرب في قطاع غزّة، مدّعيًا في أغسطس/آب أنه قال لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: «احصل على نصرك» لأن «القتل يجب أن يتوقف». ومن غير الواضح ما الدور الذي ستلعبه الإدارة المقبلة، إن وجد أصلًا، في محاولة إنهاء هذه الحرب. وانتقد ترامب دعوة فريق بايدن لوقف إطلاق النار، ووصفها بأنها محاولة «لتقييد يد إسرائيل خلف ظهرها»، وقال إن وقف إطلاق النار لن يمنح حماس سوى الوقت لإعادة تجميع صفوفها.
دعم ترامب خطابيًا خلال فترة ولايته الأولى حل الدولتين لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، في حين أبدى انحيازه لإسرائيل، فمنحها سلسلة من الجوائز الدبلوماسية التي طالما سعت إليها مثل نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وخفض التمويل لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وعكَسَ عقود من السياسة الأميركية من خلال الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان وإعلان أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية لا تنتهك القانون الدولي.
وقال ترامب في وقت سابق إنه «حارب من أجل إسرائيل كما لم يفعل أي رئيس من قبل»، وكان دور إدارته في التوسط في اتفاقيات الإبراهيمية، وهي سلسلة من الاتفاقيات الدبلوماسية بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، يُنظر إليه على أنه أحد انتصاراته الكبرى في السياسة الخارجية، وواصلت إدارة بايدن هذه الجهود.
وفي حين كانت العلاقة بين نتنياهو وترامب ودية خلال فترة ولايته الأولى، فقد ساءت بعد أن هنأ الزعيم الإسرائيلي بايدن على فوزه في انتخابات 2020 بعد يوم من إعلان النتيجة، مما أثار غضب ترامب. كما كانت لهجته تجاه إسرائيل في الأشهر الأخيرة نقدية في بعض الأحيان، حيث حذر ترامب في أبريل من أن إسرائيل «تخسر حرب العلاقات العامة» في قطاع غزة.
يتوجه ترامب إلى البيت الأبيض لولاية ثانية في الوقت الذي يشتعل فيه الشرق الأوسط الأوسع بسبب الاشتباكات بين إسرائيل ووكلاء طهران في لبنان واليمن وخارجهما. وشهد هذا العام لأول مرة تبادلًا للنيران على نحوٍ مباشر بين إسرائيل وإيران. وفي حين سعت إدارة بايدن إلى تهدئة التوترات، وحثت إسرائيل على عدم ضرب المنشآت النووية والطاقة الإيرانية في موجة الضربات الانتقامية الأخيرة، فمن المرجح أن يكون ترامب أقل حذرًا، حيث قال في أكتوبر/تشرين الأول إن إسرائيل يجب أن «تضرب النووي أولًا وتقلق بشأن الباقي لاحقًا».
لقد اتخذت إدارة ترامب الأولى موقفًا صارمًا تجاه إيران، فانسحبت من الاتفاق النووي، وسعت إلى تطبيق سياسة «الضغط الأقصى» على النظام، واغتالت قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني في غارة جوية في يناير/كانون الثاني 2020. وفي حديثه للصحافيين في سبتمبر/أيلول، قال ترامب إنه سيكون منفتحًا على التوصل إلى اتفاق جديد مع إيران لمنعها من تطوير سلاح نووي. وأضاف «علينا أن نتوصل إلى اتفاق لأن العواقب مستحيلة. علينا أن نتوصل إلى اتفاق»، دون أن يقدم مزيدًا من التفاصيل حول ما يمكن أن تنطوي عليه مثل هذه المفاوضات.
ورغم أن ترامب سعى إلى تقليص التدخل العسكري الأميركي في العراق وأفغانستان، فإنه ليس رافضًا تمامًا لاستخدام القوة العسكرية الأميركية في السعي لتحقيق أهداف واضحة، كما قال روبرت غرينواي (Robert Greenway)، الذي شغل منصب المدير الأول لشؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي التابع لترامب. وقد يتضمن ذلك منع إيران من الانضمام إلى القائمة القصيرة للدول التي تمتلك أسلحة نووية. وقال غرينواي «لعل الخيار العسكري هو الخيار الوحيد المتاح لمنع إيران من تطوير سلاح نووي».
وإضافة إلى ذلك، حذرت أجهزة الاستخبارات الأميركية من أن إيران خططت لاغتيال ترامب، ومن المرجح أن تستمر في هذه الجهود بعد يوم الانتخابات. وقال غرينواي «الآن أصبح الأمر شخصيًا أيضًا، ولا يجب تجاهل ذلك».
— إيمي ماكينون (Amy Mackinnon)
روسيا وأوكرانيا وحلف شمال الأطلسي
انتقد ترامب التمويل الأميركي للمجهود الحربي في أوكرانيا ودعا أوروبا إلى تحمل المزيد من عبء دعم كييف. ووصف ترامب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأنه «أعظم بائع على وجه الأرض» نظرًا لقدر الأموال التي تمكن من الحصول عليها لأوكرانيا من إدارة بايدن، رغم أنه أضاف: «هذا لا يعني أنني لا أريد مساعدة [زيلينسكي]، لأنني أشعر بالسوء تجاه هؤلاء الناس». ولكنه أعرب عن ارتيابه في قدرة أوكرانيا على هزيمة روسيا.
وزعم ترامب أن الأمر سيستغرق 24 ساعة فقط للتفاوض على إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا وأنه سيفعل ذلك قبل تنصيبه في يناير/كانون الثاني. ولكن التفاصيل حول الكيفية التي ينوي بها إنهاء الحرب قليلة. اقترح ترامب في مقابلة أجريت في يوليو/تموز 2023 مع فوكس نيوز أنه سيجبر زيلينسكي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات من خلال إخبار الزعيم الأوكراني بأن كييف لن تحصل على المزيد من المساعدات الأميركية وإخبار الزعيم الروسي بأن واشنطن ستزيد مساعداتها لكييف زيادة كبيرة إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق. ولم يتحدث ترامب كثيرًا عن الشكل الذي قد تبدو عليه التسوية التفاوضية، باستثناء أنه يريد «رؤية صفقة عادلة».
وقد قدم نائب الرئيس المنتخب جيمس ديفيد فانس (JD Vance) المزيد من التفاصيل حول الشكل الذي قد يبدو عليه مثل هذا الاتفاق. ورغم أنه قال إن ترامب سيترك للدولتين المتحاربتين بالإضافة إلى أوروبا العمل على تفاصيل اتفاق السلام، فقد اقترح أن هذا من المرجح أن يستلزم إنشاء منطقة منزوعة السلاح على طول خطوط المعركة الحالية، مما يسمح لأوكرانيا بالاحتفاظ بسيادتها مع إجبارها على التخلي عن بعض أراضيها التي تقع حاليا في أيدي موسكو، فضلًا عن ضمان أن أوكرانيا ستظل محايدة، مما يعني أنها لن تنضم إلى حلف شمال الأطلسي أو غيرها من «المؤسسات الحليفة».
وأشار المحللون إلى أن هذا يشبه إلى حد كبير الشروط التي وضعها بوتين لوقف إطلاق النار، والتي رفضتها أوكرانيا والعديد من داعميها، بما في ذلك الولايات المتحدة وإيطاليا وألمانيا. ولكن ترامب ليس من أكبر الداعمين لحلف شمال الأطلسي، والحلف ليس من المعجبين به أيضًا. وبَّخ ترامب أعضاء الذين لا يحققون هدف الإنفاق الدفاعي الأدنى الذي حدده الحلف، حتى أنه شجع روسيا على «فعل ما تريد» تجاه البلدان التي لا تحقق هدف الإنفاق الدفاعي البالغ 2%. لا تفي ثماني دول من بين دول الاتحاد البالغ عددها 32 دولة بهذا الشرط.
حاول حلف شمال الأطلسي قبل الانتخابات تأمين التحالف ضد ترامب. وبسبب مخاوف من أن تؤدي ولاية ترامب الثانية إلى إبطاء أو إيقاف المساعدات لأوكرانيا، عمل الاتحاد الأوروبي على زيادة إنتاج الأسلحة والمعدات الرئيسة، فضلًا عن العمل على تعزيز السلطة على التدريب والإمدادات لأوروبا. وأكد الحلف في قمته التي عقدت هذا العام في واشنطن على أن «مستقبل أوكرانيا هو في مستقبل حلف شمال الأطلسي» لكنه رفض توجيه دعوة لكييف للانضمام أو تحديد جدول زمني للعضوية.
ومن وجهة نظر روسيا، فإن رئاسة ترامب الثانية قد تمهد الطريق لعلاقات أكثر ودية بين واشنطن وموسكو، حيث يفضل الكرملين منذ فترة طويلة الزعيم الجمهوري على منافسيه الديمقراطيين. ورغم ذلك، فإن الروس مترددون بشأن وعود ترامب بإنهاء الصراع على الفور. وقال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف (Dmitry Peskov) في سبتمبر/أيلول الماضي إن هذا النوع من التفكير يندرج ضمن «عالم الخيال».
قيل إن ترامب منذ مغادرة منصبه تحدث مع بوتين ما يصل إلى سبع مرات. ولم يؤكد ترامب هذه المحادثات، وقال فقط إنه إذا كان قد أجرى مثل هذه المحادثات، فإنها «خطوة ذكية». والتقى ترامب في سبتمبر/أيلول الماضي مع زيلينسكي في نيويورك. ويمتلك الرئيس المنتخب تاريخًا متوترًا مع الزعيم الأوكراني، حيث عُزل في عام 2019 بسبب الضغط على زيلينسكي لاستخراج معلومات سياسية عن بايدن والديمقراطيين لمساعدة ترامب في محاولة الفوز بانتخابات 2020، في ذلك الوقت، كان ترامب يحجب ما يقرب من 400 مليون دولار من المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا.
— ألكسندرا شارب (Alexandra Sharp)
أفريقيا
لم تثر سياسة الولايات المتحدة تجاه أفريقيا الكثير من الاهتمام خلال الحملة الانتخابية هذا العام، حيث لم يقدم ترامب أو المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس الكثير من التفاصيل، إن وجدت، حول ما ستكون عليه خططهما عند توليهما المنصب. لكن الولاية الأولى لترامب تقدم بعض الدلائل حول الشكل الذي قد يبدو عليه مساره المستقبلي.
ركزت مبادرة ترامب الإقليمية المعروفة باسم «أفريقيا المزدهرة» (Prosper Africa)، على تعزيز التجارة وتعميق العلاقات التجارية للشركات الأميركية في القارة. إلا أنه كثيرًا ما تحدث عن سياسة الولايات المتحدة تجاه أفريقيا باستنكاف، وحتى بعنصرية، وربما كان أشهر هذه المواقف عندما انتقد ما أسماه «دول الخِراء» في أفريقيا، كل هذا في حين لم تطأ قدماه القارة ولو مرة واحدة.
وما يزيد الأمور تعقيدًا هو حقيقة أن ترامب كان يضع باستمرار سياسة الولايات المتحدة تجاه أفريقيا في سياق المنافسة الأوسع بين الولايات المتحدة والصين، مما أحبط الزعماء الأفارقة الذين سئموا من التعامل معهم باعتبارهم فكرة ثانوية في دوائر السياسة الأميركية أو، بدلًا من ذلك، ينظر إليهم على أنهم مجرد بيادق في الجغرافيا السياسية. وقال كاميرون هدسون (Cameron Hudson)، وهو زميل بارز في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، إن ترامب «صوّر إلى حد كبير مصلحة الولايات المتحدة في أفريقيا باعتبارها منافسة مع الصين، وبدرجة أقل روسيا. لقد تعلمت إدارة بايدن عدم صياغة مصالحنا بهذه المصطلحات؛ لأنهم أدركوا أن ذلك لا يوصلنا إلى أي تقدم مع الحكومات الأفريقية».
لقد ذُكرت المشاركة الأميركية في أفريقيا في مشروع 2025 (Project 2025)، وهو كتاب السياسات المحافظة الذي يبلغ عدد صفحاته 900 صفحة، والذي أصدرته مؤسسة التراث (Heritage Foundation) والذي يرتبط ارتباطًا عميقا بفريق ترامب، على الرغم من أن ترامب نفسه سعى إلى نأي نفسه عنه خلال حملته الانتخابية. بيد أن العديد من مصالح السياسة الخارجية الموضحة في مشروع 2025، بما في ذلك حجم السكان المتزايد في القارة، والإمدادات الوفيرة من المعادن الحيوية، والقرب من طرق الشحن الرئيسة، فضلًا عن مكافحة الإرهاب هناك، تشبه أولويات إدارة بايدن، كما أشار هدسون في تقرير مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية. وأكد مشروع 2025 أيضًا على أهمية مواجهة «النشاط الصيني الخبيث في القارة» من خلال الدبلوماسية العامة.
وقال هدسون إن أحد الأسئلة الكبرى المطروحة في المستقبل هو ما إذا كان ترامب سيكون قادرًا على البقاء على رسالته ومقاومة الإدلاء بمثل هذه التعليقات المهينة حول أفريقيا التي أدلى بها خلال ولايته الأولى، والتي أدت إلى تصعيد التوترات وإعاقة الدبلوماسية. قال هدسون «هل سيكون قادرًا على الامتناع عن مثل هذه التصريحات الساخرة التي اشتهر بها بصراحة؟ هذا أمرٌ يصعب التحكم فيه».
— كريستينا لو (Christina Lu)
الهجرة
تميزت فترة ولاية ترامب الأولى بأجندة متشددة في مجال الهجرة شملت سياسة مثيرة للجدل للغاية تتعلق بفصل العائلات عن بعضها البعض وحظر السفر على الأشخاص من بعض البلدان ذات الأغلبية المسلمة. وعد ترامب هذه المرة، بإجراء إصلاح أكثر دراماتيكية لسياسة الهجرة في الولايات المتحدة، متعهدًا بتنفيذ «أكبر عملية ترحيل في تاريخ أميركا».
وضع مستشارو الرئيس المنتخب خطة من شأنها أن تجعل وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك بالولايات المتحدة (U.S. Immigration and Customs Enforcement) تنفذ مداهمات واعتقالات واسعة النطاق في أماكن العمل من أجل ترحيل ملايين المهاجرين غير المسجلين كل عام. وتعتزم الإدارة بناء «منشآت احتجاز ضخمة»، على الأرجح في تكساس بالقرب من الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، من أجل احتجاز العدد الهائل من المهاجرين المتوقع أن ينتظروا الترحيل، وفقا لستيفن ميلر (Stephen Miller)، مستشار ترامب الحالي ومسؤول الهجرة السابق. ويتصور ترامب أيضًا وقف برنامج اللاجئين الأميركي (U.S. Refugee Program) وإعادة فرض بعض السياسات الأكثر إثارة للجدل من فترة ولايته الرئاسية الأولى، مثل تنفيذ نسخة أخرى من حظر السفر على المسلمين.
وتقدر تكلفة تنفيذ هذه الخطط بما يزيد على مليارات الدولارات، وقد قدر مجلس الهجرة الأميركي (American Immigration Council)، وهي منظمة غير ربحية للدفاع عن حقوق المهاجرين، المبلغ الإجمالي بنحو 88 مليار دولار سنويًا على مدى أكثر من عقد من الزمان. وبعيدًا عن هذه التكاليف الأولية، والتكلفة البشرية الهائلة التي قد تترتب على مثل هذه السياسة، حذر خبراء الاقتصاد من أن إجراء عمليات ترحيل جماعي على النطاق الذي اقترحه ترامب من شأنه أن يوجه ضربة موجعة للاقتصاد الأميركي. وخلص تحليل أجراه معهد بيترسون للاقتصاد الدولي (Peterson Institute for International Economics) إلى أن عمليات الترحيل الجماعي التي اقترحها ترامب، والتي تستهدف قوة عاملة رئيسة يصعب استبدالها، من شأنها أن تؤدي إلى ارتفاع التضخم، وخفض الناتج المحلي الإجمالي الأميركي، وتقليص فرص العمل. وأشار التقرير إلى أن الزراعة ستكون القطاع الأكثر تضررًا.
وقال أرييل رويز سوتو (Ariel G. Ruiz Soto)، الخبير السياسي في معهد سياسة الهجرة (Migration Policy Institute)، إن الإصلاح الذي اقترحه ترامب لن يكون من السهل تنفيذه، لأنه من المرجح أن يواجه عقبات سياسية وقانونية ولوجستية. وأضاف «على الصعيد المحلي، سيكون من الصعب للغاية على إدارة ترامب الحصول على دعم الكونغرس اللازم لإجراء عمليات الترحيل الجماعي. ومن الناحية اللوجستية، من الصعب محاولة تحديد هوية المهاجرين واحتجازهم لفترات طويلة من الزمن دون انتهاك القانون الأميركي الحالي، ثم إعادتهم إلى بلد ربما لم يزوروه منذ فترة».
ولكن من المتوقع أن تؤدي خطابات ترامب ووعوده التحريضية إلى إثارة قدر كبير من الخوف بين مجتمعات المهاجرين. وقال سوتو: «سواء كانت الخطة عملية أو قابلة للتنفيذ أم لا، فإن عواقب هذه السياسة سيكون لها تأثيرات حقيقية على الناس». وذكر بأن ولاية ترامب الأولى قد زرعت في قلوب الناس «خوفًا مؤثرًا».
—كريستينا لو
الهند
لقد رُوِّج لعلاقة الولايات المتحدة مع الهند على مدى عقود من الزمن على أنها علاقة متفقٌ عليها ومضمونة تقريبًا لدى أي زعيم على الجانبين. ولم تكن فترة ولاية ترامب الأولى استثناءً، على الأقل من حيث المظهر. لقد أسس ترامب ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي (Narendra Modi)، الذي انتخب لولاية ثالثة هذا العام، علاقة بدت شخصية وسياسية أكثر منها دبلوماسية. ولعل أفضل مثال على ذلك هو مسيرة «هاودي مودي» (Howdy, Modi) التي أقيمت في هيوستن في سبتمبر/أيلول 2019 ومسيرة «ناماستي ترامب» (Namaste Trump) التي أقيمت في أحمد آباد في الهند بعد خمسة أشهر.
ولكن حتى الآن لا يوجد سبب يدعو للاعتقاد بأن الزعيمين لن يستكملا ما انتهى إليه كل منهما. ولكن النظرة العالمية المعاملاتية لترامب تسببت أيضا في درجة من الاحتكاك، حيث تعارضت عقيدته «أميركا أولًا» مع سياسة «صنع في الهند» التي ينتهجها مودي. وفيما يتصل بالهجرة (الموضوع الأقرب إلى قلوب الهنود باعتبارهم أكبر مجموعة من المتقدمين للحصول على تأشيرات العمل في الولايات المتحدة)، فرض ترامب قيودًا متعددة على برنامج تأشيرة H-1B الذي يستخدمه آلاف الهنود لدخول الولايات المتحدة كل عام. وفي حين أبقى بايدن على بعض القيود المفروضة على تأشيرة H-1B في وقت مبكر من إدارته، فقد خفف بعد ذلك العديد من قيود الهجرة التي فرضها ترامب. وكان ترامب قد انتقد برنامج H-1B في الماضي ووصفه بأنه غير عادل للعمال الأميركيين، لكنه لم يشر حتى الآن إلى الطريقة التي سيتعامل بها معه هذه المرة.
والآن أصبحت واشنطن ونيودلهي في وضع أفضل بشكل ملحوظ، حيث نجح بايدن ومودي في تعميق العلاقات بين البلدين في مجالات التكنولوجيا والتجارة والدفاع بشكل كبير، ومع وجود قلق متبادل بشأن صعود الصين مما دفع البلدين إلى التقارب أكثر. ومن المرجح أن تستمر هذه الديناميكية في عهد ترامب، مع تعزيز المعارضة للصين للعلاقات الأميركية مع دول أخرى في جنوب آسيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ الأوسع أيضا. وقد تؤدي زيادة مشتريات الهند من المعدات الدفاعية الأميركية إلى إدخالها في حسابات ترامب، ولكن نفوره من التعددية قد يلحق الضرر بمجموعات مثل الرباعية (الحوار الأمني الرباعي أو The Quad). وقال سوشانت سينغ (Sushant Singh)، المحاضر في جامعة ييل والمساهم الدائم في فورين بولسي، متحدثًا قبل وقت قصير من الانتخابات: «أعتقد أن الهند واثقة تمامًا من قدرتها على التعامل مع أي من الإدارتين»، حتى لو كانت إدارة ترامب «غير متوقعة وغير متسقة إلى حد كبير».
— ريشي آينغار (Rishi Iyengar)
التكنولوجيا
نظرًا لمركزية التكنولوجيا في الجغرافيا السياسية اليوم، فإن تعامل ترامب مع الصناعة على المستوى المحلي ومن وجهة نظر الأمن القومي سيكون له تأثيرات عالمية كبيرة. ولكن نهجه في الأمر الأول أقل وضوحًا، فقد دعمت العديد من شركات وادي السيليكون حملته بحماس، بما في ذلك إيلون ماسك، لكن فانس أشاد أيضا برئيسة لجنة التجارة الفيدرالية (Federal Trade Commission) في إدارة بايدن (وعدوة شركات التكنولوجيا الكبرى)، لينا خان (Lina Khan).
وقد يحقق ترامب في هذا الصدد مزيدًا من الاستمرارية أكثر مما قد يتوقعه الناس. بعد كل شيء، كانت ضوابط تصدير أشباه الموصلات التي فرضها بايدن قد سبقتها حملة ترامب على هواوي، وتراجع عن حظر ترامب على تيك توك في ولايته الأولى، ليقوم بايدن، بتحفيز من الكونغرس، بإحيائه مرة أخرى. إلا أن حظر التطبيق المملوك للصين يظل في الواقع سؤالًا مفتوحًا، نظرًا لأنه قد يظل معلقًا في المحكمة لعدة أشهر أخرى، وقد أعرب ترامب خلال حملته الانتخابية عن درجة من الغموض غير المسبوق بشأن متابعة الحظر.
ولكن فيما يتعلق بكبح صعود الصين التكنولوجي وإعادة التصنيع التكنولوجي إلى الشواطئ الأميركية، فمن المرجح أن يواصل ترامب ما بدأه وما واصل بايدن العمل على تعزيزه.
— ريشي آينغار (Rishi Iyengar)
إحالات:
[1] إلى حين استلام مهامه في شهر كانون الثاني/ يناير 2025، يُسمى الرئيس القادم بالرئيس المُنتخب (President-Elect)، في حين يسمى الرئيس الحالي بالرئيس شاغل المنصب الذي تجربي/جرت عليه الانتخابات (Incumbent).
[2] يُسمى السياسيون الأميركيون المؤيدون للسياسات التي تؤدي إلى إحداث حروبٍ بالصقور.