في السنوات الأخيرة، وقبل كلّ انتخابات أميركيّة، يستعدّ الإستراتيجيّون في كلا الحزبين للمفاجآت، والتي تأتي على شكل مقاطع فيديو مزيّفة عن طريق "التزييف العميق". ويخشى القائمون على الحملات الانتخابيّة أن تكون لتلك المقاطع تأثير كبير على الأيّام الأخيرة من السباق الرئاسيّ، مع معرفة أنّ عمليّات التزوير الّتي تتمّ باستخدام الذكاء الاصطناعيّ أصبحت متقدّمة للغاية. وحذّر المشرّعون في كلا الحزبين منذ أشهر من أنّ جهات أجنبيّة متطوّرة تحاول التأثير على نتيجة الانتخابات الرئاسيّة...

كلّ من الرئيس دونالد ترامب والمرشّحة الخاسرة في الانتخابات الأخيرة، كامالا هاريس، كان هدفًا لصور مزيّفة. وتمّ تداول مقطع فيديو معزّز بالذكاء الاصطناعيّ على منصّات وسائل التواصل الاجتماعيّ الأسبوع الفائت يظهر ترامب، وهو يتعثّر ويفقد السيطرة تمامًا أثناء عمله في نافذة مقدّم الوجبات السريعة، ماكدونالدز، وهو ما يشبه ظهوره الأخير في حملته الانتخابيّة في سلسلة الوجبات السريعة في مقاطعة باكز في ولاية بنسلفانيا.

التحوّل البارز لترامب في خدمة الطلبات السريعة جاء أيضًا هدفًا لحملة تضليل، حيث غمرت التعليقات والتقييمات المزيّفة المطعم في فيسترفيل لدرجة أنّ تطبيق "ييلب" وهو تطبيق مختصّ بتصنيفات المطاعم عبر الإنترنت، اضطرّ إلى تعطيل التعليقات الخاصّة بالمطعم. الصورة المزيّفة في آب/ أغسطس يزعم أنّها تظهر ترامب الأصغر سنًّا قبل سنوات جالسًا بجانب الجاني الجنسيّ المدان جيفري إبستين على متن طائرة خاصّة. وتمّ تداول الصورة على منصّة إكس الاجتماعيّة، وحقّقت مئات الآلاف من المشاهدات، لكنّ الخبراء لاحقًا قالوا إنّها من صنع الذكاء الاصطناعيّ.

وفي آب/ أغسطس الماضي، زعم ترامب، دون توفير أيّ أدلّة، أنّ هاريس استخدمت الذكاء الاصطناعيّ لفبركة صور مزيّفة لحشود ضخمة في مسيرات حملتها، على الرغم من أنّ الصحفيّين كانوا شاهدين على تلك الحشود الّتي حضرت الأحداث.

وفي سياق متّصل، أفاد مركز تحليل التهديدات التابع لشركة مايكروسوفت قبل الانتخابات، أنّ "جهات فاعلة روسيّة" تحاول تشويه سمعة هاريس بمقاطع فيديو مزيّفة تصوّرها في صورة غير جذّابة. وحسب مايكروسوفت، نشرت حسابات باللغة الروسيّة على منصّة إكس، مقطع فيديو معزّز بالذكاء الاصطناعيّ يصوّر هاريس بشكل زائف وهي تشير "بشكل فظّ" إلى محاولات اغتيال ترامب، وتقول إنّه رفض "حتّى الموت بكرامة".

يقول الخبير الاستراتيجيّ في الحزب الديمقراطيّ روديل مولينو "أفكّر بشكل خاصّ في تويتر وإيلون ماسك" في تعليق على خاصّيّة التزييف العميق "لقد تحسّنت تقنيّة التزييف العميق على مرّ السنين، فأصبحت أكثر وضوحًا ممّا كانت عليه عندما رأيناها لأوّل مرّة في عام 2016، لقد أصبحت أكثر دقّة"، وأضاف أنّ "التزييف العميق ليس هو الخطر الأكبر، بل عدم رغبة شركات وسائل التواصل الاجتماعيّ في التحقيق فيه ووقف انتشاره". وقد تعرّض إيلون ماسك، مالك منصّة إكس، المعروفة سابقًا باسم تويتر، لانتقادات متكرّرة من الديمقراطيّين لمشاركته معلومات مزيّفة أو مضلّلة.

التزييف العميق في وسائط التواصل الاجتماعيّ

جاءت تعليقات مولينو بعد أن أعاد ماسك نشر إعلان حملة هاريس المزيّف، في آب/ أغسطس الماضي، الّذي استخدم تعليقًا صوتيًّا تمّ إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعيّ ليبدو الأمر وكأنّ هاريس وصفت نفسها بأنّها غير مناسبة لدخول للمكتب البيضاويّ. ودافع ماسك، الّذي أيّد ترامب، عن هذه الخطوة لاحقًا باعتبارها مشاركة لشيء كان ينبغي للناس أن يعرفوا أنّه محاكاة ساخرة.

وبينما بدا أنّ تلك الصور ومقاطع الفيديو المزيّفة لم يكن لها تأثير يذكر على الناخبين، يتوقّع المسؤولون عن الحملات الانتخابيّة والخبراء غير الحزبيّين أن تتفاقم المشكلة على مدى الأيّام المقبلة، ويحذّرون من أنّ الادّعاء المحتمل "بالقنبلة" قد يؤثّر على النتيجة في بعض الولايات.

وحذّر الصحفيّ جون هيلمان في بودكاست Hacks on Tap "أشعر بالقلق، إذا فكّرت في الشيء الّذي قد يقلّب السباق رأسًا على عقب في الأسبوعين الماضيين، فإنّ الشيء الّذي لم نره بعد، والّذي ركّز عليه كلّ من ينتبه إلى هذه الأشياء لمدّة عامين هو عند ظهور المعلومات المضلّلة والتضليل والأخبار المزيّفة، وخاصّة تلك الّتي تعتمد على التزييف العميق ستخلق تخلق حالة من الفوضى والدمار في الأيّام الأخيرة من الحملة"

الأخبار المزيّفة الّتي تعتمد على الذكاء الاصطناعيّ والتزييف العميق قد تكون نتائجها كارثيّة على المجتمع والأفراد. حسب تقرير على هيئة الإذاعة البريطانيّة "بي بي سي". العام الفائت ظهر مقطع صوتيّ يظهر مدير مدرسة محلّيّة، في مدينة بالتيمور في ولاية ماريلاند الأميركيّة، وهو يدلي بتعليقات مهينة. انتشر المقطع على الإنترنت بشكل مجنون، وبدأت تهديدات بالقتل ضدّ المعلّم بالظهور، ووصلت موجات الجدل إلى الضواحي خارج المدينة. ولكن سرعان ما تمّ الكشف عن أنّه مزيّف، وتمّ التلاعب به بواسطة الذكاء الاصطناعيّ، ولكن ما زال بعض الناس يعتقدون أنّه حقيقيّ.

في المقطع المزيّف الّذي بدا كأنّه خطبة طويلة لمدير مدرسة بايكسفيل "أنا حقًّا لا أفهم لماذا يجب أن أتحمّل باستمرار هؤلاء الحمقى هنا كلّ يوم". الخطبة الّتي تخلّلتها عبارات عنصريّة ومسيئة. بدت وكأنّه تمّ تسجيلها بشكل سرّيّ. يستمرّ المدير بالحديث والتذمّر في المقطع المزيّف من "الأطفال السود الجاحدين" واليهود في المجتمع.

انتشر المقطع، الّذي ظهر لأوّل مرّة في كانون الثاني/يناير على مستوى الولايات المتّحدة. لكنّه أثار وترًا حسّاسًا في ضاحية بايكسفيل الهادئة، والّتي تضمّ عددًا كبيرًا من السكّان السود واليهود، وفي مدينة بالتيمور القريبة من ولاية ماريلاند. وتمّ وضع مدير المدرسة إريك آيزويرت في إجازة إداريّة مدفوعة الأجر في انتظار التحقيق.

ألفي مالون، وهو رجل أسود يعيش في بالتيمور، بالإضافة إلى أعضاء آخرين من مجتمعه، نشروا المقطع، وافترضوا أنّه حقيقيّ. يقول مالون "في أعماق عقلك تعتقد أنّ تلك على الأرجح الطريقة الّتي يشعر بها الناس تجاهنا. ثمّ تستمع إلى ذلك الواقع من خلال الصوت". وفي محاولة لتأكيد ما كان يسمعه، راجع مالون تسجيلات حقيقيّة أخرى لمدير المدرسة آيزويرت على وسائل التواصل الاجتماعيّ، وكانت تبدو متشابهة. وبالتّالي وجد نفسه في وضع يمكنه من خلاله الضغط على زرّ إعادة المشاركة.

وبعد عدّة تحقيقات أجرتها الشرطة، أكّد رئيس شرطة بالتيمور روبرت ماكولو في نيسان/ أبريل، أنّ لديهم الآن "دليلًا قاطعًا على أنّ التسجيل غير أصليّ"، ويعتقدون أنّهم يعرفون من صنع المقطع المزيّف، وبالفعل، وجّهت الشرطة اتّهامات إلى دازون دارين البالغ من العمر 31 عامًا، والّذي يعمل مديرًا للألعاب الرياضيّة في المدرسة بعدّة تهم تتعلّق بالمقطع المزيّف، وشملت التهم السرقة والانتقام من شاهد والمطاردة. وتمّ القبض عليه في المطار، حيث تقول الشرطة إنّه كان يخطّط للسفر إلى هيوستن في ولاية تكساس.

إنّ انتشار مقاطع الفيديو الّتي تصوّر بشكل زائف المذيعين الأميركيّين، مثلًا، وهم يدلون بتعليقات مضلّلة، أو يؤيّدون العملات المشفّرة وغيرها من السلع أمر يثير قلق المحلّلين. إنّ استخدام ما يعرف بالتزييف العميق، وهي مقاطع الفيديو الّتي تمّ إنشاؤها باستخدام الذكاء الاصطناعيّ لتقمّص شخصيّات الناس بشكل واقعيّ، بما في ذلك الصحفيّين، ينظر إليه على أنّه أمر مزعج بشكل خاصّ.

الأخبار المزيّفة وتأثيرها على قنوات الأخبار

وفي وقت يتّسم بتفشّي التضليل وانخفاض الثقة في الأخبار، وبينما تكافح قنوات وصحف الأخبار مع كيفيّة دمج الذكاء الاصطناعيّ في عملها، فإنّ مثل هذه المقاطع تجعل من الصعب على الجمهور تحديد ما إذا كان ما يرونه ويسمعونه حقيقيًّا أم لا.

يقول بول باريت، نائب مدير مركز شتيرن للأعمال وحقوق الإنسان بجامعة نيويورك، في مقال على موقع "فوا نيوز" إنّ مقاطع الفيديو المزيّفة، وخاصّة تلك الّتي يتمّ تصويرها من قبل الصحفيّين، تخلط بين ما هو حقيقيّ وما هو غير حقيقيّ. ويركّز بحث باريت على تأثيرات التكنولوجيا على الديمقراطيّة، إذ باستخدام الذكاء الاصطناعيّ، يمكن للأفراد عمل مقاطع فيديو لمذيعين حقيقيّين ينشرون قصصًا مزيّفة.

ونتيجة لذلك، فإنّ مقاطع الفيديو المزيّفة "تطمس بشكل عامّ الخطّ الفاصل بين الحقيقيّ والواقعيّ من ناحية، والزائف والمضلّل من ناحية أخرى، والهدف النهائيّ هو تآكل ثقة الناس فيما يحدث، سياسيًّا أو غير ذلك، في بلدانهم وحول العالم"، كما قال باريت.

أحيانًا قد يكون من الصعب تتبّع مصدر مقاطع الفيديو، والأصعب من ذلك إزالة المحتوى بنجاح من منصّات التواصل الاجتماعيّ، ويأتي هذا في وقت استهدفت مقاطع الفيديو المزيّفة الصحفيّين في منافذ الأخبار بما في ذلك "سي إن إن" و"إس بي سي" و"بي بي سي"، منتحلين شخصيّات صحفيّين بارزين بما في ذلك أندرسون كوبر وكلاريسا وارد وجايل كينج.

منذ تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، تعرّض مراسلو الأخبار الروسيّة في إذاعة صوت أميركا لهجمات باستخدام مقاطع فيديو مزيّفة. وقالت كسينيا توركوفا، إحدى المراسلات، إنّها شعرت بالصدمة عندما شاهدت لأوّل مرّة مقطع فيديو يظهرها وهي تقول أشياء لم تقلها قطّ. وقالت توركوفا لإذاعة صوت أميركا "شعرت بالضعف، وشعرت أنّ سمعتي وثقتي كصحفيّة قد تكون في خطر".

بالنسبة لفينسنت بيرتييه، رئيس مكتب التكنولوجيا في "مراسلون بلا حدود"، فإنّ التلاعب بـ "الثقة" هو السبب الرئيسيّ وراء استهداف الصحفيّين. وقال بيرتييه أنّ هناك هدفين عادة من التزييف العميق للصحفيّين، الأوّل هو زرع عدم الثقة في وسائل الإعلام، والثاني هو الاستفادة من ثقة الناس في وسائل الإعلام لجعلهم يصدّقون المعلومات المضلّلة. وأضاف "التزييف العميق هو في الواقع سلاح ضدّ الصحافة. ​​إنّه ليس سيّئًا فقط لحرّيّة الصحافة بشكل عامّ. إنّه مشكلة للوصول إلى المعلومات". وقال إنّ جزءًا من المشكلة هو السهولة الّتي يمكن بها للأشخاص إنشاء محتوى مزيّف يمكن تصديقه. وفي معرض تهديد الأخبار المزيّفة للديمقراطيّة قال بيرتييه "هناك أشياء لا ينبغي للابتكار أن يسمح بها، لأنّها تشكّل خطورة على الديمقراطيّة، وإذا كانت تشكّل خطورة على الديمقراطيّة، فهي تشكّل خطورة علينا جميعًا".

وفي الوقت الّذي لم تردّ شركات "ميتا" و"تيكتوك" و"إكس" على رسائل البريد الإلكترونيّ الّتي أرسلتها إذاعة صوت أميركا تطلب التعليق على الأخبار الكاذبة والتزييف العميق. تحدّث مسؤول في شركة جوجل إلى إذاعة صوت أميركا ونوّه مدوّنة نشرها موقع يوتيوب في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، والّذي قال إنّ منصّة الفيديو ستقدّم تحديثات "خلال الأشهر المقبلة" والّتي "ستطلب من المبدعين الكشف عن متى أنشأوا محتوى معدّلًا أو اصطناعيًّا واقعيًّا، بما في ذلك استخدام أدوات الذكاء الاصطناعيّ".

وتحظر سياسة يوتيوب المحتوى الّذي يهدف إلى انتحال هويّة الأشخاص. ولكن يشعر بعض الناس بالقلق بشأن كيفيّة استخدام الذكاء الاصطناعيّ في غرف الأخبار. في حين يشير بعض المحلّلين الإعلاميّين إلى الكيفيّة الّتي يمكن بها للذكاء الاصطناعيّ أن يقدّم خدمة فعّالة من حيث التكلفة للصحافة الاستقصائيّة.

تشير التقارير إلى أنّ انعدام الثقة بوسائل الإعلام وصل بالفعل إلى أعلى مستوياته إطلاقا في الولايات المتّحدة، ووجد استطلاع أجراه معهد رويترز لدراسة الصحافة بيّن أنّ قادة وسائل الإعلام أنّ 70% يعتقدون أنّ صعود الذكاء الاصطناعيّ "التوليديّ" سيكون له تأثير سلبيّ على الثقة بالأخبار.

وذكر المستجيبون للدراسة أنّ استخدام الذكاء الاصطناعيّ في إنشاء المحتوى يشكّل الخطر الأكبر، مقارنة بمستويات أقلّ من القلق بشأن استخدام الذكاء الاصطناعيّ في أشياء مثل كتابة كودات البرامج التكنلوجيّة والتوزيع مثلًا.

الأخبار الزائفة بالأرقام

تشير الإحصاءات في موقع "ريد لاين" أنّ 66% من المستهلكين في الولايات المتّحدة يعتقدون أنّ 76% أو أكثر من الأخبار على وسائل التواصل الاجتماعيّ متحيّزة، ويقول 60% على الصعيد العالمي أنّ المؤسّسات الإخباريّة تنشر بانتظام قصص كاذبة. في حين أفاد 82% من الأرجنتينيّين مثلًا أنّهم رأوا قصصًا كاذبة بشكل متعمّد في كثير من الأحيان، مقارنة بنسب أقلّ في ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبيّة. ويعرب 60% من الصحفيّين في الولايات المتّحدة عن قلقهم الشديد بشأن القيود المحتملة على حرّيّة الصحافة. ويرى 94% من الصحفيّين أنّ الأخبار الملفّقة تشكّل مشكلة كبيرة.

وشارك 38.2% من مستهلكي الأخبار في الولايات المتّحدة عن غير قصد أخبار كاذبة على وسائل التواصل الاجتماعيّ، ووجد 16% من المستجيبين بشكل عامّ أنّ محتوى الأخبار على تويتر دقيق، مع وجود تناقضات صارخة تستند إلى المحاذاة السياسيّة، و66% من الروبوتات الّتي تناقش كوفيد-19 كانت تنشر معلومات مضلّلة.

وفي السياق نفسه، واجه 47% من البالغين في الولايات المتّحدة قدرًا كبيرًا من الأخبار الملفّقة حول كوفيد-19 بما يشكّل زيادة بمقدار 3 أضعاف في مقاطع الفيديو المزيّفة وزيادة بمقدار 8 أضعاف في مقاطع الصوت المزيّفة من عام 2022 إلى عام 2023، حيث تمّ مشاركة أكثر من 500 ألف مقطع فيديو مزيّف على وسائل التواصل الاجتماعيّ في عام 2023.