في الفصل الأوّل من دراستي علم الإجرام، كنت أستمع إلى محاضرة عن دور السلطة الرادعة في المجتمعات، وتحديدًا الشرطة. في نقاش دار بين الطلّاب حول الجريمة في المجتمع العربيّ، حمّل بعض الطلّاب المجتمع المسؤوليّة، ثمّ ردّ المحاضر، وهو دكتور مختصّ في علم الإجرام، جملة كانت صادمة لهم بقدر ما هي صريحة وأساسيّة لمن لديه دراية علميّة؛ "لو كنتُ أعيش في هذا المجتمع، لما قبلت أن أشهد على أحد". كان هذا التصريح الجريء منه تعبيرًا عن شعور عامّ بأنّ المجتمع العربيّ يفتقر إلى سلطة رادعة حقيقيّة وقادرة على فرض النظام بفعاليّة.

كلمات المحاضر لم تكن مجرّد رأي شخصيّ، بل انعكاس لما يعانيه العديد من أبناء المجتمع من خوف دائم وتردّد في التعاون مع الشرطة، نتيجة الشعور بأنّ العدالة غائبة، وأنّ السلطات الأمنيّة تتنصّل من المسؤوليّة. وبالإضافة إلى الشعور، فإنّ العلم أيضًا يؤكّد ذلك. وهذه الجزئيّة تستغلّها الشرطة لإلقاء الاتّهامات على المجتمع العربيّ فيما يتعلّق بانتشار الجريمة.

في السنوات الأخيرة تشهد البلدات العربيّة تصاعدًا ملحوظًا في وتيرة الجريمة والعنف الدمويّ، وسط غياب شبه تامّ لدور الشرطة الإسرائيليّة وازدياد سطوة منظّمات الجريمة. باتت جرائم القتل البشعة والمواجهات المسلّحة بين المنظّمات الإجراميّة جزءًا من المشهد اليوميّ، ممّا يزيد التساؤلات العميقة حول دور الشرطة وعلاقتها الهشّة مع المواطنين العرب، وتحديدًا في ظل حكومة بن غفير - نتنياهو.

في عام 2022 قُتِل في المجتمع العربيّ ما يقارب 126 مواطنًا. وبعد تولي حكومة اليمين المتطرّف السلطة التي يرأس فيها بن غفير وزارة من المفترض أن تقدّم الحماية للمواطن العربيّ، وهو الذي لا يفوّت فرصة للتحريض على المواطنين العرب، فإنّ المعطيات تشير إلى مرحلة "متقدّمة" نحو الأسوأ في هذا الصراع، إذ تضاعفت الأرقام في عام 2023 إلى 244 جريمة.

في ذلك تقع المسؤوليّة على الشرطة، والتي تغيب عن البلدات العربيّة لأسباب يصفها كثيرون بأنّها سياسيّة، إذ أصبح تعامل هذه الشرطة مع المواطنين العرب يتّسم بعدم الاهتمام، وذلك بصورة مقصودة ومخطّطة، وهو ما أدّى في نهاية المطاف إلى تضاعف الشعور بعدم الثقة.

لماذا تتصاعد الجريمة؟

بقصد أو بغير قصد، يخطئ كثيرون حين يتّهمون المجتمع العربيّ بانتشار الجريمة ومظاهرها، وعادة ما يعزون - سواء في نقاشاتهم السياسيّة أو في المقاهي الشعبيّة - هذا الواقع إلى سلوك فرديّ، ومن ثمّ تعميمه على المجتمع. هذا أوّلًا غير واقعيّ، بالإضافة إلى أنّه يتنافى تمامًا مع العلم، فضلًا عن أنّ السلطة الإسرائيليّة تستغلّ هذه النقاشات للتهرّب من المسؤوليّة. لا أقول إنّ المجتمع العربيّ لا تقع عليه مسؤوليّة ما، ولكن في الدرجة الأولى، فإنّ المسؤوليّة تقع على المؤسّسة الحاكمة، وإذا ما أردنا العلاج، فيجب علينا تشخيص المرض بشكل صحيح، وعلينا أن نسأل، كيف يحلّل علم الجريمة والاجتماع حالة الجريمة في المجتمع العربيّ حين تغيب السلطة الرادعة؟ وما القوانين التي ستحكمه لاحقًا؟ وكيف سيكون سلوكه؟ وما التحدّيات التي ستواجهه؟

ينظر إلى هذه الظاهرة من قبل بعض الباحثين والمحلّلين في علم الاجتماع والإجرام على أنّها أزمة من منظور سوسيولوجي، ولكن في حالتنا هذه، فلا بدّ من إضافة الجانب السياسيّ.

يستند الباحثون والعلماء إلى عدّة نظريّات يمكننا من خلالها تفسير الحالة المتردّية في المجتمع العربيّ في الداخل الفلسطينيّ. طوّر عالم الاجتماع إميل دوركهايم نظريّة الفوضى الاجتماعيّة (Anomie Theory)، والّتي يمكن أن تقدّم تفسيرًا للحالة الراهنة؛ حيث يشعر المواطنون بأنّهم يعيشون في فراغ من النظام وفقدان القواعد الرادعة، وذلك في ظلّ غياب الشرطة، إذ أصبح تخطّي القانون في البلدات العربيّة أمرًا روتينيًّا، ونتيجة لذلك، ومع انعدام "سيادة القانون"، فإنّ الشعور بالاغتراب يزداد شيئًا فشيئًا، وبذلك يصبح العنف والجريمة وسائل يلجأ إليها البعض لمواجهة هذا الفراغ.

في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، كانت نيويورك تُعرف بمدينة الجريمة والمافيا والعصابات، حيث كانت الجرائم منتشرة، وتسيطر المافيا على أحياء عديدة، كما كان انتشار المخدّرات والدعارة وخرق القانون أمرًا لا يمكن التغاضي عنه. تبنّت الشرطة نظريّة النوافذ المكسورة (Broken windows theory)، أي مكافحة الجرائم الصغيرة كالتخريب والتشرّد والمخدّرات، وكانت تهدف بذلك إلى منع الجرائم الأكبر قبل حدوثها، من أجل التفرّغ لمكافحة الجرائم الكبرى، وهي المافيا والجريمة المنظّمة.

تذهب هذه النظريّة إلى أنّ مظاهر الاضطراب، مثل غياب إنفاذ القانون، تشجّع على المزيد من الجرائم، وهو ما يتجلّى بوضوح في مجتمعنا، وعدم التعامل بجدّيّة مع الجرائم الصغيرة والمتوسّطة، حوّل العنف إلى ظاهرة يوميّة من حياتنا، وهو ما يشجّع على المزيد من التجاوزات، ونستطيع رؤية ذلك في اختراق الحيز العامّ ومخالفات السير والتخريب في الحدائق العامّة، إلى آخره…

بحسب علم الإجرام، تفسّر نظريّة الصراع (Conflict Theory) لكارل ماركس ما يحدث، إذ ترى أنّ غياب الشرطة (السلطة الرادعة) هو نتيجة مباشرة للصراع ما بين الدولة والمجتمع، وهو ما يتجلّى في المجتمع العربيّ، بترك المناطق العربيّة من دون حماية كافية، ممّا يُفسح المجال لمنظّمات الجريمة للاستحواذ على المشهد الأمنيّ وفرض "قوانينها الخاصّة". في ظلّ هذا الفراغ، تظهر عصابات الجريمة كقوى بديلة، سواء في الأحياء أو البلدات، وتتنافس في ما بينها على فرض السيطرة والنفوذ، ما يؤدّي إلى تصاعد الصراعات الداخليّة.

في حديثي مع أحد المواطنين، قال إنّه "عندما أبلغت الشرطة عن جريمة إطلاق نار تجاه مركبتي، لم يكن ثمّة ردّ فعل حقيقيّ، وكأنّ حياتنا لا تهمّهم، حتّى أنّهم لم يكلّفوا أنفسهم بالمجيء إلّا بعد ساعة ونصف، وبعد عدّة اتّصالات".

من أهمّ النظريّات التي يمكن أيضًا من خلالها تفسير أزمة المجتمع العربيّ الآن، هي نظريّة الردع (Deterrence Theory)، إذ إنّ غياب العقوبات الرادعة، وعدم الخوف منها، يشجّع الأفراد والجماعات على ارتكاب الجرائم، وحسب الأرقام، في المجتمع العربيّ إذا أردت قتل إنسان، فإنّ احتماليّة أن تُضبط هي أقلّ من 7٪.

مع غياب الشرطة، يضعف عنصر الردع، وهو ما يؤدّي إلى تشجيع الأفراد على الانخراط في أنشطة غير قانونيّة وإجراميّة، وفي هذا السياق، يكون غياب السلطة الرادعة عاملًا مشجّعًا على ارتكاب الجرائم.

كذلك، تعزّز نظريّة العقد الاجتماعيّ (Social Contract Theory) انتشار الفوضى في سياق غياب القوّة الرادعة. حسب هذه النظريّة الّتي طوّرها الفيلسوفان توماس هوبز وجون لوك، فإنّ وجود السلطة يُعتبر أمرًا ضروريًّا لضمان السلامة العامّة، وفي غياب الشرطة، يصبح العقد الاجتماعيّ مهدّدًا، وعلى إثر ذلك يتنامى قانون الغاب، حيث يسود العنف والصراع من أجل البقاء، وهو ما يؤدّي إلى فقدان الاستقرار والأمن في المجتمع. وفي حالتنا هذه، فقد خرقت المؤسّسة الإسرائيليّة عقدها الاجتماعيّ مع المجتمع العربيّ، ليس لأسباب ضعف، وإنّما لأسباب سياسيّة قوميّة، فلو أنّها ضعيفة لوجتسيًّا كما تدّعي، لما كانت لديها القدرة على فكّ رموز جرائم المجتمع اليهوديّ بهذه النسبة العالية، ولما كانت قد توصّلت إلى اعتقال 1500 شابّ في أحداث هبّة الكرامة في أيّار.

حين يفقد الناس الأمل في الأمن والأمان، يصبح النظام القانونيّ ضعيفًا، وهو ما يزيد انعدام الثقة بمؤسّسات الدولة، ويعزّز الشعور بالتهميش والإحباط لدى الأفراد.

هُنا ينتشر الفزع بين السكّان، الأمر الذي يولّد شعورًا بالخوف والقلق الدائمين لدى كثيرين، ممّا يؤثّر في الحياة الاجتماعيّة والنشاط الاقتصاديّ والسياسيّ والثقافيّ، وهو ما يعزّز أيضًا تصاعدًا في دور "العدالة الذاتيّة"، والتي من خلالها قد يلجأ بعض الأفراد إلى "أخذ الحقّ باليد والانتقام" في حلّ النزاعات، وبدوره، يزيد ذلك من وتيرة العنف والجريمة، ويؤدّي إلى تصاعد في حجم الصراعات، وليس عبثًا أنّ خلفيّة جرائم القتل غالبًا ما تكون انتقامًا بين منظّمات إجراميّة أو عائلات، أو على خلفيّة أموال.

البيئة غير الآمنة تؤثّر سلبًا على الاقتصاد المحليّ، ويمكن أن تكون سببًا في تعطيله، حيث يتردّد المستثمرون وأصحاب الأعمال في العمل في منطقة تُعتبر غير آمنة.

إنّ تزايد الجرائم يترك أثرًا عميقًا في النسيج الاجتماعيّ، وحين تتصاعد الأزمة، فإنّها تنعكس جليًّا على الحياة اليوميّة للمواطنين العرب في الداخل الفلسطينيّ، ويتزايد الشعور بالعيش تحت تهديد دائم، وهو ما يعزّز الشعور بالعزلة والخوف، بينما تتجنّب الدولة أيّ تدخّل حقيقيّ لحماية أمن المواطنين.

يقول أحمد من مدينة الناصرة "نحن في بلداتنا محاصرون بين تقاعس الشرطة وتهديد العصابات. نحن نعيش في حالة من الخوف الدائم". ويمكن القول إنّ استمرار هذا الوضع، سيؤدّي بلا شكّ إلى تفاقم حالة الفوضى والعنف، ما لم يتمّ التحرّك بشكل جادّ.

اقرأ/ي أيضًا | قتل النساء: قد يبدأ بإهانة.. كيف نتعرف على علامات الخطورة؟