قد يبدو للبعض وصف الإجرام ضد المجتمع الفلسطيني داخل الخط الأخضر بالإبادة مبالغا فيه. صحيح أنّ الإبادة جريمة مهولة كونها قتلا جماعيا وإماتة مقصودة بأعداد مهولة، وبأساليب فائقة الهمجية، تستهدف كليا أو جزئيا جماعة قومية أو عرقية أو دينية؛ ولكن لم يعد ممكنا فصل هذه السياسة الصهيونية المميتة ضد حملة المواطنة الإسرائيلية من الفلسطينيين عن مخطط الصهيونية الشامل، وتجسيدها المؤسساتي الحاكم بتغييب قضية فلسطين برمتها. إننا نرى تجليات هذه المخططات الشيطانية في الإبادة الجارية على مساحة قطاع غزة الكاملة، وهي جريمة تفوق بعشرات المرات جريمة نكبة عام 1948.
لقد أُخضع شعبنا منذ استقرار الحركة الصهيونية في فلسطين، وخصوصا بعد تأسيس دولتها، لعملية تطهير عرقي وإبادة فعلية (عبر الطرد والتهجير والمذابح)، وإبادة تعليمية وثقافية، واجتماعية. وتتوقف درجة ونوع هذه الإبادة على خصوصية الظروف السياسية والقانونية التي تخضع لها كل منطقة فلسطينية، أو كل تجمّع فلسطيني. فبخصوص ما تقوم به إسرائيل في قطاع غزة، قضت المحكمة الدولية بأنه يرتقي للإبادة الجماعية. أما في الضفة الغربية، فالممارسة الاستعمارية تتجسد بالاستيطان المكثف والتطهير العرقي، الذي يشمل القتل والاعتقال والتدمير ومصادرة الاراضي وقطع الاشجار تحضيرا للضم أو للتهجير. أما داخل الخط الاخضر، الفلسطينيون الناجون من عملية التطهير العرقي، فقد أضيف إلى محنتهم مخطط نشر الجريمة في صفوفهم الذي يفتك بأبنائهم وبناتهم، في ما يمكن وصفه بعملية تدمير منهجي تدريجي لكل ما حققوه على مدار عقود من النضال السياسي والثقافي والقانوني والشعبي.
إنّ تصعيد ملاحقة لجان الإصلاح عبر الاعتقال والتحقيق والتهديد، والتي تشكّلت بقرار من لجنة المتابعة العليا، وهي بمثابة القيادة الموحدة لهذا الجزء من الشعب الفلسطيني، تُدلّل مرة أخرى على مدى تورط النظام الصهيوني في مخطط الإجرام. هذا المخطط الذي بدأ وتصاعد قبل السابع من أكتوبر بسنوات طويلة. فخلال العقدين الماضيين وحتى اليوم، فتك بأكثر من ألفين و500 ضحية، ناهيك عن أعداد كبيرة من الجرحى والمعوّقين، وأعداد كبيرة من المعتقلين، وجزء كبير منهم فتية غُرّر بهم. ناهيك أيضًا عن تدمير حيوات عائلات بأكملها معنويا وماديا. هكذا أصبح مجتمعنا وأفراده يعيشون في جو من انعدام الأمن والخوف الدائم، الخوف من المجرمين، والخوف من نظام القمع.
لماذا هذا الاستهداف للجان الإصلاح، لهيئة غير سياسية، لماذا تواصل إسرائيل العداء لمواطنيها العرب رغم أن مخططاتها أضعفت الفعل السياسي لدى هؤلاء المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل بدرجة كبيرة في العقد الأخير؟
ببساطة لأن إسرائيل كدولة كولونيالية، يهودية صهيونية، التي قامت على إنكار الوجود الفلسطيني، ترفض أي شكل من أشكال التنظيم للجماعة القومية الأصلانية التي سُرق وطنها في وضح النهار، رغم أنهم يحملون المواطنة الاسرائيلية، وهي المواطنة التي مُنحت لهم فقط بعد مطالبة منظمة الأمم المتحدة إسرائيل كشرط لقبولها عضوا في المنظمة الدولية. ولكن مع ذلك، فقد اعتمدت إسرائيل جملة من القوانين والإجراءات لمنع تحوّلهم إلى جماعة قومية، إلى جماعة سياسية، تجسّدت في سلسلة من السياسات والإجراءات الإدارية مثل الحكم العسكري، منع الأحزاب والأطر القومية المستقلة، استئصال الرواية الفلسطينية من مناهج التعليم، ومصادرة الأراضي، وتهويد المكان ومعالمه.
بعد انتهاء الحكم العسكري عام 1966، وبعد احتلال بقية فلسطين، وفي سياق الظروف السياسية الإسرائيلية الداخلية، والفلسطينية والعربية، نتج وعي جماعي جديد لدى فلسطينيي الداخل، الذي بدوره ولّد تحديا جماعيا، وفردياً ومنظما، ضد نظام القمع. تجلى هذا التحدي في ظهور تنظيمات وأطر على أساس قومي، وخوض نضالات وهبّات شعبية، وصلت ذروتها في الانتفاضة الثانية عام 2000، حين التحم فلسطينيو الداخل، بصدورهم العارية، مع هذه المواجهة بمستوى غير مسبوق من حيث الحدة والاتساع والشمولية، ما صدم المؤسسات الحاكمة. كما تجلى في نشوء معادلات وتصورات فكرية تدعو لتحدي يهودية وصهيونية الدولة، متوافقة مع جهود لتنظيم المجتمع الفلسطيني على أساس قومي ومهني.
باختصار، نشأت تنظيمات وأحزاب وقيادات عكست مراحل تطور المجتمع الفلسطيني تعليميا وثقافيا واقتصاديا، وسياسيا، وبات المشهد السياسي يتسم بالتعددية والتفاعلية، والفاعلية غير المسبوقة. كل ذلك شكّل مسارا متسارعا نحو التشكل الجماعي، والذي يترتب عليه حقوق جماعية وفقا للقوانين الدولية، مثل المساواة الكاملة والحكم الذاتي، أو أشكال أخرى من حق تقرير المصير.
لكن هذا التطور جاء عكس توجهات نظام الأبرتهايد وأيديولوجيته العرقية الاستعمارية، فكان عليه أن يُعدّل من آليات القمع والسيطرة، ويشنُّ مخططات أكثر قسوة وأكثر إيلاما. وشملت هذه المخططات مزيدا من الضغط، ومزيدا من وسائل الترويض، ومزيدا من القوة الخشنة.
الهدف من كل ذلك هو نزع السياسة عبر تفريغ المؤسسات الحزبية والتمثيلية من السياسة، وترويض قيادات نافذة. لقد تحقق جزء كبير من هذا المخطط؛ إخراج حركة سياسية مركزية عن القانون، ودفع جناح آخر من الحركة الإسلامية (الشق الجنوبي) إلى التحالف مع حكومة الأبرتهايد، واختزال قضيتنا الوطنية في جانب واحد هو الجانب المدني، وملاحقة أحزاب اخرى. وبعد أن كادت تبرز قوة اجتماعية منظمة غير تقليدية جديدة، هي الشباب، خصوصا من خلال طليعيتها في هبة الوحدة والكرامة عام 2021، جرى البطش بها عبر الاعتقال وفرض الأحكام العالية، ومواصلة وتصعيد حملة الترهيب والردع مع شن الحرب الإبادية على غزة. والآن تفتح حكومة إسرائيل حربا جديدة ضد لجان الإصلاح، التي تقول إنها نجحت في معالجة مئات القضايا الاجتماعية، والتي بدأت تلقى قبولا شعبيا، وتنشأ فروع لها في بلدات عربية جديدة.
هذا يقول، أيضا، أن مجتمعنا في زمن الكوارث والمخططات الإجرامية، يستطيع أن يحمي نفسه ويجد الطرق والوسائل التي تمكنه من مواصلة الفعل والثقافي والاجتماعي، وترسيخ جذوره في أرض ظنّ المستعمر أنه قادر على بلعها وتغييب روايتها وقضيتها.
رغم ذلك، هذا ليس كافيا، إذ هناك حاجة للمراجعة الحقيقية والنقد الصادق لأحوالنا، حاجة لإعمال الفكر وتفعيل القدرات للخروج بمبادرات للتطوير في مجال تنظيم المجتمع وتوطيد العلاقة مع شعبنا المنكوب، وقضيته التحررية التي نحن جزء منها. فالمخطط الجاري خطير، وخطير جدا.