في أواخر أيلول/سبتمبر الماضي، قامت حملة الرئيس الأميركيّ المنتخب دونالد ترامب بإحياء تجمّع انتخابيّ تحدّث فيه الرئيس الأمريكيّ الحاليّ قبل الانتخابات. الحدث الّذي كان من المفترض أن يروّج للسياسات الاقتصاديّة الّتي من شأنها أن تبشّر بما تسمّيه حملته "عصر جديد من الصناعة الأميركيّة"، تحوّل بشكل دراماتيكيّ، بعد أن أمضى ترامب وقتًا طويلًا في مناقشة المظالم الشخصيّة وإلقاء اللوم على المهاجرين في كلّ شيء، من جرعات الفنتانيل الزائدة إلى الجريمة والاستيلاء على وظائف الأميركيّين. وقال الرئيس عن الهجرة في الخطاب الّذي ألقاه في سافانا في ولاية جورجيا "هذا خطاب عن التنمية الاقتصاديّة، ولكنّ هذا جزء كبير من التنمية الاقتصاديّة".
تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"
بعد ذلك الحدث الّذي حصل في قلب السافانا، وقف أنصار كامالا هاريس في ساحة صغيرة للاحتجاج تحت أشجار البلّوط في المدينة. كيري تيتوس، وهي طالبة في كلّيّة سافانا للفنون والتصميم، قالت "لم أكن مهتمّة بالسياسة صراحة حتّى أدركت أنّني أستطيع أن أفعل شيئًا حيال ذلك وأنّ لي صوتًا". لم تكن تيتوس "ضدّ الجمهوريّين" بشكل عامّ، ولكنّها شعرت بالنفور من ترامب وما يمثّله في أوّل انتخابات لها كمواطنة يحقّ لها التصويت. أضافت "أنا فقط أحاول معرفة ما هو الأفضل بالنسبة لي، كوني امرأة، وكوني في العشرين من عمري".
الإجهاض وتقسيمات حسب الجنس
يشير الخبراء إلى أنّ الانتخابات قامت بالفعل بتعميق الشرخ داخل المجتمع الأميركيّ. ذلك الشرخ الّذي بدا جليًّا بعد ترشّح ترامب ونجاحه في الانتخابات الرئاسيّة عام 2016، وحسب تقرير في صحيفة "فاينانشيال تايمز" Financial Times الأميركيّة، فقد تدافعت النساء نحو هاريس.
على النقيض من ذلك، تحوّل الرجال بشكل متزايد إلى دعم ترامب، الّذي استغلّ مخاوف ومظالم الذكور، فضلًا عن المخاوف التقليديّة بشأن الهجرة والاقتصاد. كما صوّر نفسه على أنّه يشاركهم هواياتهم، من الغولف إلى بطولة "القتال النهائيّ". واستدعى ترامب نجم المصارعة "هالك هوجان" للتحدّث في المؤتمر الجمهوريّ، وأقام علاقة صداقة سياسيّة وطيدة مع الملياردير إيلون ماسك، وقضى ثلاث ساعات من المناقشة الحرّة في البودكاست الّذي يستضيفه جو روغان الشهير.
في أحد التجمّعات الانتخابيّة الأخيرة لهاريس قبيل الانتخابات في ولاية ميشيغان، انتظرت ديبورا ماتلوك، وهي محلّلة سلسلة توريد تبلغ من العمر 58 عامًا، ثلاث ساعات لمشاهدة نائب الرئيس تتحدّث، وكانت تفكّر في بناتها. تقول ماتلوك "إنّهنّ بحاجة إلى حقوق الإجهاض. إنّهنّ بحاجة إلى رعاية صحّيّة للإناث. إنّه أمر أشبه بالحياة والموت".
لم يساعد ترامب نفسه في هذه القضيّة. لقد كافح لإبعاد نفسه عن دوبس Dobbs، الحكم التاريخيّ للمحكمة العليا في عام 2022 الّذي ردّ قضيّة رو ضدّ وايد Roe vs Wade، والتي كانت تحمي حقوق الإجهاض قبل إمكانيّة بقاء الجنين على قيد الحياة، على مستوى البلاد لعقود من الزمان. تمّ كتابة القرار من قبل أغلبيّة القضاة المحافظين بما في ذلك ثلاثة من المعيّنين من قبل ترامب. خلال الحملة الانتخابيّة، قدّم ترامب مرارًا تعهّدات لـ "حماية النساء"، حيث قال مؤخّرًا أنّه سيفعل ذلك "سواء أحببن ذلك أم لا".
من جهتها قالت كيلي ديتمار، مديرة الأبحاث في مركز المرأة الأميركيّة والسياسة في جامعة روتجرز، "إنّ ترامب لم يغيّر قواعد اللعبة لكسب المزيد من النساء، وإذا كان الماضي هو المقدّمة، فهذا ليس جيّد بالنسبة له، لأنّ النساء هنّ الناخبات اللاتي يعتمد عليهنّ بشكل أكبر".
وبالرّغم من أنّ حلفاء ترامب يقولون إنّ الفجوة بين الجنسين مبالغ فيها إلى حدّ كبير، يشير المراقبون إلى أنّ الانقسام الأميركيّ لم يتوقّف عند حدود الجنس أو الثقافة فقط. قبيل الانتخابات انتشر الحديث عن دعم النساء بشكل سرّيّ لهاريس، بينما دعم أزواجهنّ وشركائهنّ ترامب. إليسا سلوتكين، المرشّحة الديمقراطيّة لمجلس الشيوخ في ميشيغان، نشرت على صفحتها على فيسبوك "أخبرتني صديقة أنّ إحدى صديقاتها صوّتت لترامب في عامي 2016 و 2020 همست لها في أثناء الغداء أنّها تصوّت الآن لهاريس، وأنّها تعتقد أنّ هناك الكثير من الناس مثلها".
الانقسام العرقيّ والسياسيّ
الانقسام حسب العرق أيضًا توسّع بشكل واضح بعد انتخاب ترامب لأوّل مرّة في عام 2016، ووفقًا لمركز بيو للدراسات.
بدوره، سعى ترامب إلى استمالة السود واللاتينيّين الساخطين، والأميركيّين العرب الغاضبين من السياسة الأميركيّة في الشرق الأوسط، على الرغم من أنّ الخطاب العنصريّ الذي أدلى به في تجمّعه الانتخابيّ في "ماديسون سكوير جاردن".
الاختلاف السياسيّ أيضًا لم يسلم من التوسّع، وتوضّح الدراسات الّتي أجراها مركز بيو للأبحاث على مدى السنوات القليلة الماضية الخلاف المتزايد بشكل صارخ بين الديمقراطيّين والجمهوريّين بشأن الاقتصاد والعدالة العرقيّة وتغيّر المناخ وإنفاذ القانون والمشاركة الدوليّة وقائمة طويلة من القضايا الأخرى. وقد سلّطت الانتخابات الرئاسيّة لعام 2020 الضوء بشكل أكبر على هذه الانقسامات العميقة.
ويعتقد أنصار بايدن ودونالد ترامب أنّ الاختلافات بينهما تتعلّق بأكثر من مجرّد السياسة؛ فقبل شهر من الانتخابات، قال ما يقرب من ثمانية من كلّ عشرة ناخبين مسجّلين في كلا المعسكرين الديمقراطيّ والجمهوريّ إنّ خلافاتهم مع الجانب الآخر تتعلّق بالقيم الأميركيّة الأساسيّة.
جائحة كورونا، المسمار الأخير في النعش
جائحة كورونا، مثلًا، كشفت عن مدى الانقسام في السياسة الأميركيّة مقارنة مع الدول الأخرى. خلال الصيف، شعر 76% من الجمهوريّين (بما في ذلك المستقلّون الّذين يميلون إلى الحزب) أنّ الولايات المتّحدة قامت بعمل جيّد في التعامل مع تفشّي فيروس كورونا عبر 14 دولة شملها الاستطلاع. وعلاوة على ذلك، قال 77% من الأميركيّين إنّ البلاد أصبحت الآن أكثر انقسامًا ممّا كانت عليه قبل تفشّي المرض، مقارنة بمتوسّط 47% في الدول الـ 13 الأخرى الّتي شملها الاستطلاع.
ويختلف أنصار ترامب وبايدن حول أهمّيّة الاقتصاد والرعاية الصحّيّة - وخاصّة فيروس كورونا. في دراسة أجراها المركز قبل الوباء، كان الأميركيّون يعانون أكثر من انقسام أيديولوجيّ بالمقارنة مع الدول الـ 19 الأخرى الّتي شملها الاستطلاع عندما سئلوا عن مقدار ثقتهم في العلماء وما إذا كان العلماء يتّخذون القرارات بناء على الحقائق فقط.
تخلّلت هذه الشقوق كلّ جانب تقريبًا من جوانب الاستجابة العامّة والسياسيّة للأزمة على مدار العام. ويختلف الديمقراطيّون والجمهوريّون حول قضايا عديدة مثل ارتداء الأقنعة وتتبّع المخالطين ومدى نجاح مسؤولي الصحّة العامّة في التعامل مع الأزمة، وما إذا كان يجب الحصول على لقاح بمجرّد توفّره، وما إذا كانت الحياة ستظلّ متغيّرة بشكل كبير بعد الوباء. بالنسبة لمؤيّدي بايدن، كان تفشّي فيروس كورونا قضيّة محوريّة في الانتخابات، في استطلاع للرأي أجري في تشرين الأوّل/ أكتوبر، إذ قال 82% إنّه كان مهمًّا جدًّا لأصواتهم.
بطبيعة الحال، الاختلاف في الميول والتوجّهات السياسيّة ليس جديدًا، ويشير الخبراء إلى أنّه من المهمّ أن نتذكّر أنّ عصور الصراع الحزبيّ "الخافت" نسبيًّا، مثل أواخر الخمسينيّات، اتّسمت أيضًا بالظلم الممنهج الّذي أبقى العديد من الأصوات، وخاصّة أصوات الأميركيّين غير البيض، خارج الساحة السياسيّة. وبالمثل، كانت العصور السابقة من الانقسام العميق، مثل أواخر الستّينيّات، أقلّ حزبيّة بكثير، ولكنّها أقلّ عنفًا أو زعزعة للاستقرار. ولعلّ ما هو فريد من نوعه في هذه اللحظة من الانقسام الحادّ في أميركا، هو أنّ هذه الانقسامات ظهرت بشكل كبير في قضايا مختلفة، حيث لا يوجد تقريبًا موطئ قدّم لقضيّة مشتركة أو هويّة وطنيّة جامعة.