شهدت العمليات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة في جنوب لبنان تصعيدا كبيرا، استهدفت فيه القوات الإسرائيلية المباني السكنية والحيوية والخدمية من شمالي لبنان إلى جنوبها، وتركزت في قطاعات بعلبك والضاحية الجنوبية لبيروت وجنوبي لبنان والقرى الحدودية مثل رميش ويارون، والعديسة، وعيتا الروم، ومارون الراس وعيتا الشعبـ وغيرها، ليكون هذا التصعيد مزيجا معقدا من الأهداف الإستراتيجية والأمنية والنفسية التي تطاولها الآلة الوحشية للجيش الإسرائيلي، والتي تهدف بالمحصلة إلى إضعاف البنية التحتية لحزب الله بالقرب من الحدود الشمالية للأراضي المحتلة. تُدعّم هذه العمليات بسرد إعلامي موجّه ومدروس بعناية، عبر لقطات تصويرية سينمائية تتضمن رسائل عنيفة لكل أعداء تل أبيب في المنطقة بعدم اختبار صبر تل أبيب، أو قدرتها على الردع واستدامة الصراع إلى أبعد مستوى يمكن أن يصل.
بدأت هذه الحملة في أيلول/ سبتمبر الماضي عندما وسّعت إسرائيل نطاق عملياتها، لتشمل حزب الله إلى جانب حركة حماس في غزة، كونه قد أعلن عن فتح جبهة إسناد منذ 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وبحسب وزارة الصحة اللبنانية، فقد أودت العمليات العسكرية التي بدأتها إسرائيل على لبنان بما لا يقل عن 3500 شهيد و14500 مصاب. وتحاول تل أبيب من هذه الحملة الحد من قدرات حزب الله التشغيلية عبر تفجير المباني التي يزعمون أنها تستخدم لأغراض عسكرية وهجومية على البلدات الإسرائيلية الحدودية ومواقع الجيش الإسرائيلي، أو أنها ممرات لأنفاق يستخدمها الحزب. وتهدف إسرائيل من خلال هذا النهج إلى بعث رسائل ردع واضحة لحزب الله ومؤيديه عبر هذا النوع من المشاهدات الإعلامية، بما يعكس سيطرة إسرائيل على مجريات المعركة، سواء على الأرض أو عبر منصات الإعلام العسكري.
تفجيرات انتقامية
تظهر فيديوهات ملتقطة عن مدنيين لبنانيين نازحين من جنوبي لبنان أنه لا يوجد قطع عسكرية أو أمنية في قرى جنوبي لبنان، سوى نقاط أمنية لقوات اليونيفيل التي تشرف على عملية فض الاشتباك على الحدود. وبالتالي، فإن استهداف المباني السكنية المدنية في هذه القرى الحدودية مبني على حاجة تكتيكية انتقامية لقطع أوصال الفرق التي يشرف عليها حزب الله في جنوبي لبنان، وتدمير البنية التحتية المتواجدة داخل مناطق مدنية، حيث تدّعي الرواية الإسرائيلية أن حزب الله يدمج عملياته مع الحياة المدنية، ما يجعل من الصعب استهدافه بوسائل تقليدية، وبالتالي فقد كان من الضروري بالنسبة للجيش الإسرائيلي تفجير مباني كاملة في القرى الحدودية وتطبيق حزام ناري على مدارها. فعليًا، هذه القرى تعدّ مراكز حيوية في شبكات الخلايا العسكرية التابعة لحزب الله وقدراته العملياتية، حيث يمكن استخدام البيئة الجبلية والطبيعة المتشعبة لبناء وتجهيز أنفاق لتخزين الأسلحة ونقل القادة والجنود، وحماية مقدرات الحزب العسكرية. لذا، فإن اللقطات السينمائية التي ترافق هذه العمليات الوحشية لا تُعد مجرد توثيق عادي؛ بل إنها تكتيك نفسي يسعى إلى التأثير على مقاتلي حزب الله وقاعدته الشعبية المحلية والإقليمية، وكذلك طمأنة المستوطنين الإسرائيليين بأن هناك تدابير حازمة تتخذ لحمايتهم.
فعليًا، لا يمكن فصل هذا التصعيد عن سياق الصراع الإقليمي الأكبر بين إسرائيل وحزب الله وإيران، إذ تسعى إيران منذ سنوات لتوسيع نفوذها عبر دعم حلفاء غير حكوميين في الشرق الأوسط، بما في ذلك حزب الله في لبنان ومجموعة من الفصائل العراقية وقوات الحوثيين في اليمن. حزب الله، بصفته أقوى منظمة عسكرية غير حكومية في العالم، يتمتع بقدرات عسكرية قوية تهدد أمن إسرائيل. ولهذا السبب، فإن انتقال الجيش الإسرائيلي من مجرد قصف بري أو بحري أو جوي وإطلاق صواريخ بعيدة ومتوسطة المدى، إلى توسيع العمليات والتوغل البري في جنوبي لبنان ليس فقط لحماية الحدود، بل هو جزء من محاولة أوسع للحد من النفوذ الإيراني في لبنان والمنطقة ككل، وإجبار المجتمع الدولي على نزع سلاح الحزب وتقليص وجوده العسكري في لبنان، بالإضافة إلى إجبار الحكومة اللبنانية على تقليص ثقله السياسي في لبنان والالتزام بالقرارات الأممية، سيما القرار 1701 الذي يضمن إخلاء الحزب قواعده في جنوب الليطاني، وبالتالي إبعاد حليف قوي لإيران من مناطق محاذية للحدود، وصولاً إلى إضعافه وإبعاده من كامل لبنان وكامل سورية، وجعل هذه الدول مناطق آمنة ومريحة لإسرائيل.
المشاهد السينمائية كأداة تخويف
هذه العمليات ضد حزب الله لم تكن تقليدية كما الحال في حرب تموز 2006، لسببين: الأول هو عدم توغل الجيش الإسرائيلي داخل الأراضي اللبنانية حينها، والثاني اقتصار الضخ الإعلامي على الصواريخ ومشاهد لقصف الصادرة من قبل القنوات التلفزيونية الرسمية الإسرائيلية. في حرب أيلول/ سبتمبر 2024، توغلت القوات الإسرائيلية في عدد من القرى جنوبي لبنان وتمكنت بعد معارك شديدة من الوصول إلى عمق هذه القرى، وادعى الجيش الإسرائيلي أنه قطع طرق الإمداد لمقاتلي حزب الله في هذه المناطق. لم تكتف القوات الإسرائيلية بالتكتيكات التقليدية للمعارك والتي تعتمد على تمشيط المباني Canvassing Tactics ومغادرتها مع ضمان عدم عودة عناصر حزب الله إليها، بل استخدمت تكتيك الأرض المحروقة Scorched Earth Tactics كتكتيك العسكري قائم على تدمير كل ما يمكّن حزب الله من الاستمرار في معركته ضد إسرائيل؛ بما في ذلك الأراضي والمزارع والمباني المدنية والحيوية والخدمية والبنية الأساسية. يدعّم هذا التكتيك بالصورة والفيديو لنقل العمليات وإبراز السطوة والتحكم على أرض المعركة عبر توظيف أسلوبين من نقل الصورة: الأول هو المراسلين الحربيين الذين تصحبهم القوات الإسرائيلية لينقلوا معارك مباشرة و عمليات تفخيخ وتفجير للمباني المدنية في المناطق التي جرى اقتحامها؛ فيما الأسلوب الثاني هو نقل الفيديو و الصورة من وجهة نظر الضباط والجنود أنفسهم عبر استخدام خوذ مدعمة بكاميرات FPN توضح التفجيرات التي تطاول البنية التحتية؛ تتطلع إسرائيل إلى السيطرة على التصور العام وترسيخ صورتها كطرف قوي وحازم في الحرب مع حزب الله، وبالتالي تساهم هذه اللقطات في إظهار القدرة التكنولوجية والدقة في استهداف مواقع حزب الله، ما يبرر للرأي العام المحلي والعالمي الإجراءات المتخذة كخطوة دفاعية ضرورية وواقعية ضمن النهج التدميري الذي تعتمد إسرائيل ضد حزب الله ومواقعه و تحصيناته من جهة، و ضمن الهجمة الشرسة على القاعدة الجماهيرية الشعبية له في لبنان من جهة أخرى.
يشير الإنتاج البصري لمشاهد تفجير القرى الحدودية إلى رغبة إسرائيل في بيع سردية الانتصار وسردية الجندي القادر على الدخول إلى عمق أراضي "العدو"، ويحقق رغبة الشارع الإسرائيلي في تفجير ما يجب تفجيره لكي يكون في مأمن ويضمن عودة آمنة الى مستوطنات الشمال؛ بالإضافة إلى أنها تربط مشهدية التخريب والاستعلاء مع فكرة الإنجاز العسكري في أرض حزب الله التي كان الحزب قد حررها عام 2000، ودافع عنها عام 2006 ويعتبره انتصارا بقي عالقًا في مذكرات القادة العسكريين في الجيش الإسرائيلي. من وجهة نظر الجندي الإسرائيلي المتابع لسير عمليات المعركة في لبنان تعطيه هذه الفيديوهات ثقة مطلقة بالمناخ العام لقيادة العمليات هناك، واقتناعا تاما بفكرة الانتصار على جبهة مُقلقة ومؤرّقة على المستويين العسكري والمدني، ويقينا بقدرة الجنود الإسرائيليين بأنهم أنجزوا المهمة المزعومة في القضاء على معاقل حزب الله والوصول إلى الأنفاق ومنافذها، وبالمحصلة يزداد معدل الرضا العام عن عمليات الجيش الإسرائيلي في لبنان خصوصا.
تحمل هذه العروض السينمائية للتفجيرات والمؤثرات البصرية للفيديوهات المنتجة تأثيرًا مزدوجًا: فهي من جهة تعزز الدعم بين الجمهور الإسرائيلي الذي يرى فيها إجراءات استباقية لضمان أمنهم، ومن جهة أخرى تمثل تحذيرًا واضحًا لقيادة حزب الله وأنصاره حول تكلفة تصعيد الصراع مع إسرائيل. تعتبر إستراتيجية الجيش الإسرائيلي في استهداف القرى خلال الحرب على لبنان انعكاسا لاعتبارات عسكرية وسياسية معقدة، خصوصا في سياق مواجهاته مع حزب الله. ويتمثل أحد الأسباب الرئيسية المزعومة في هذه المشاهد السينمائية وراء اعتماد هذه الإستراتيجية في طبيعة الأسلوب القتالي الذي يعتمده حزب الله، حيث يزعم الجيش الإسرائيلي أن الحزب يدمج عناصره ومعداته العسكرية داخل البنية التحتية المدنية في الجنوب اللبناني، ما يصعب على الجيش الإسرائيلي التفريق بين الأهداف العسكرية والأماكن المدنية وبالنتيجة تصبح منازل المدنيين أهدافا مشروعة يجب تدميرها، بحسب وجهة نظرهم. تتوزع هذه البنية التحتية على مختلف القرى، بحيث يظهر جيش الاحتلال في روايته أن هذه المباني تستخدم كمخازن للأسلحة ونقاط انطلاق للهجمات الصاروخية، وهي جزء من إستراتيجية حزب الله التي تهدف إلى حماية موارده وتوفير بيئة عملياتية يصعب على إسرائيل استهدافها دون التأثير على المدنيين. في ظل هذا الواقع، يبرر الجيش الإسرائيلي استهدافه لهذه القرى بحجة أنه يضطر لتفكيك هذه الشبكة العسكرية التي تعزز من قدرة حزب الله على شن الهجمات، وذلك كإجراء وقائي يهدف إلى تحييد مصادر التهديد وتبرير وحشيته أمام المجتمع الدولي أن هذه التفجيرات هي جزء من عملية الردع ضد حزب الله.
علاوة على ذلك، ينظر الجيش الإسرائيلي إلى تصدير الفيديوهات والمؤثرات البصرية حول تفجير القرى الحدودية كجزء من تكتيك الحرب النفسية يوجه فيه تحذيرًا إلى القاعدة الشيعية في لبنان، أو أي قاعدة مذهبية أخرى من مغبة دعم حزب الله أو الانجرار إلى أي تحالف من شأنه تقوية موقف المقاومة في المنطقة. إسرائيل تسعى إلى إظهار أن استضافة حزب الله والسماح له بالعمل في هذه المناطق سيؤدي إلى خسائر فادحة، الأمر الذي قد يدفع المدنيين لإعادة النظر في دعمهم أو قبولهم لهذا التنظيم. كما أن هذه الحملة تستهدف توجيه رسالة واضحة إلى حزب الله بأن إسرائيل مستعدة للقيام بأي إجراءات تعتبرها ضرورية لحماية أمنها القومي، وذلك حتى وإن ترتب على ذلك تداعيات قاسية على المناطق السكنية.
لكن هذه التكتيكات تثير قضايا أخلاقية وقانونية، حيث إن القانون الدولي الإنساني ينص على ضرورة حماية المدنيين وممتلكاتهم والتمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية. كثيرا ما تتعرض إسرائيل لانتقادات دولية واسعة من خصومها وحلفائها بسبب هذه العمليات، وتتعرض لاتهامات بجرائم انتهاك قوانين حقوق الإنسان واتباع نهج الإبادة الجماعية ومسح القرى.
من جهة أخرى، تلعب الضغوط الداخلية في إسرائيل دورا مهما في توجيه السياسة العسكرية، فحينما يتعرض المدنيون الإسرائيليون للهجمات الصاروخية من حزب الله، تتزايد الدعوات الشعبية لتوجيه ردود عسكرية حاسمة. وبالمثل، فإن يأتي الادعاء بأن عجز الحكومة اللبنانية، نوعا ما، عن كبح نفوذ حزب الله يدفع إسرائيل ضمن خطتها التوسعية في المنطقة إلى محاولة تقويض وجود الحزب في جنوبي لبنان خصوصًا والمنطقة عمومًا، إذ تأمل أن يؤدي ذلك إلى تحفيز الدولة اللبنانية ودول المنطقة على اتخاذ موقف أكثر حزمًا تجاه حزب الله وإلزامه على تنفيذ القرارات الدولية وأهمها 1701،
تداعيات العمليات على المدنيين اللبنانيين وسيادة الدولة اللبنانية
تعود آثار هذه العمليات واضحة بشكل كبير على المدنيين اللبنانيين الذين يجدون أنفسهم في خضم النزاع. أدى تدمير المنازل في قرى مثل يارون وعيتا الروم إلى نزوح جماعي للسكان، ما خلق أزمة إنسانية وزاد من حالة الغضب تجاه إسرائيل. كما تبرز هذه العمليات محدودية تأثير الدولة اللبنانية في السيطرة على حزب الله، خاصة في الجنوب، حيث يعمل الحزب بقدر كبير من الاستقلالية، سيما في المناطق الجنوبية من لبنان والتي لا يوجد فيها رقابة للجيش اللبناني. وبحسب تقرير المعهد الدولي للبيانات التابع للمنظمة الدولية للهجرة، فإن قضاء بنت جبيل الذي يضم 36 قرية كان من أشد المناطق التي شهدت نزوحا نحو شمال لبنان بنسبة 48% من إجمالي عدد النازحين اللبنانيين، بالإضافة إلى النازحين من قضاء مرجعيون وقضاء صور وغيرها. تعطي هذه المشاهد السينمائية للتفجيرات انطباعا شعبيا أن عودة اللبنانيين إلى قُراهم باتت شبه معدومة كون هذه القرى سوّيت على الأرض، وتجري اتفاقات حول تسليمها لقوات دولية تشرف على تنفيذ قرارات التسوية ومناقشة عودة النازحين وسبل إعادة الإعمار، في حال خلصت هذه المشاورات إلى صيغة حل توافقي بين أطراف الحرب.
تعكس إستراتيجية حرب الأرض المحروقة التي فعلتها إسرائيل في جنوبي لبنان، والتي تجمع بين العمليات العسكرية والبث الإعلامي الإستراتيجي والفيديوهات السينمائية التصويرية، تعقيد الصراعات المعاصرة، حيث تتداخل الأهداف العسكرية مع التحكم في السرد الإعلامي. ويسعى الجيش الإسرائيلي عبر استهداف مواقع حزب الله وتوثيق هذه العمليات إلى تحقيق الأمن الداخلي وضمان السيطرة على الرأي العام الدولي والمحلي. ومع ذلك، فإن هذا النهج يطرح تساؤلات أخلاقية كبيرة، فعلى الرغم من أن إسرائيل تصف هذه العمليات كضرورة لوقف تهديد حزب الله، فإن واقع تهجير المدنيين وتدمير قراهم لا يمكن تجاهله أو تجاهل تداعياته لسنوات قادمة على النازحين.