أفاد تقرير أصدره "حملة - المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي" حول المراقبة الرقمية في القدس، بأن السياسات الإسرائيلية المتعلقة بالمراقبة والسيطرة الرقمية بلغت مستويات غير مسبوقة خلال العام الماضي، تحديدًا منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. شملت هذه السياسات اعتقالات جماعية بسبب أنشطة رقمية، وفصلًا تعسفيًا من العمل والمؤسسات التعليمية، إضافة إلى تعزيز الاعتماد على تقنيات متقدمة مثل أنظمة التعرف على الوجه، والطائرات المسيّرة، وأدوات التجسس.

تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"

وأشار التقرير إلى تصاعد استخدام تقنيات المراقبة الرقمية بشكل ممنهج، بما في ذلك كاميرات مراقبة مزودة بتقنيات التعرف على الوجه، والطائرات المسيّرة، وخوارزميات التنبؤ بالسلوك "الإجرامي". استُخدمت هذه التقنيات لتبرير ممارسات مثل مداهمة المنازل والاعتقالات التعسفية، حتى في غياب أي مخالفة جنائية.

وبيّن التقرير أن هذه القيود لم تقتصر على الفضاء الرقمي فقط، بل امتدت لتؤثر على حياة الفلسطينيين الاقتصادية والاجتماعية، حيث أُجبر العديد منهم على ترك وظائفهم أو مؤسساتهم التعليمية بسبب القيود المفروضة على الحركة والمراقبة. كما كشف التقرير عن وصول عدد المعتقلين الفلسطينيين إداريًا إلى مستويات غير مسبوقة منذ عام 1967، مع تصاعد حالات التوقيف بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي.

ويعاني المقدسيون منذ عقود من المراقبة والسيطرة المشددة التي تنتهك الخصوصية، إذ تصاعدت هذه الممارسات منذ الانتفاضة الثانية (2000-2005) والتوسع الإسرائيلي في الأحياء الفلسطينية في البلدة القديمة ومحيطها. لم يقتصر الأمر على تعزيز هذه الأساليب التقليدية، بل شهدت أيضًا تكثيفًا ملحوظًا.

إضافة إلى أساليب المراقبة التقليدية مثل التنصت على الاتصالات السلكية، وشبكات التجسس، ومداهمة المنازل، والاستجواب، وحملات التفتيش، توسعت الأساليب الرقمية لتشمل أنظمة مراقبة مؤتمتة. تضمنت هذه الأنظمة كاميرات مزودة بتقنيات بيومترية، جمع البيانات من وسائل التواصل الاجتماعي، التجسس الإلكتروني، الاستطلاع بالطائرات المسيّرة، وأنظمة التنبؤ بالسلوك الإجرامي. يُعتبر نظام "مباط 2000" للتعرف على الوجه أحد أبرز هذه التقنيات، حيث يتتبع السكان الفلسطينيين في المدينة منذ بداية الألفية، ويتيح، وفقًا لمسؤولين إسرائيليين، تغطية 95% من البلدة القديمة.

ووفقًا للتقرير، اعتمدت السلطات الإسرائيلية حتى عام 2017 على خوارزميات السلوك الإجرامي لتحليل البيانات من وسائل التواصل الاجتماعي وأنظمة الاتصالات الأخرى، بهدف التوصية بتوقيف أشخاص استنادًا إلى احتمالية ارتكابهم لما تسميه "عملًا إرهابيًا"، وهو تعريف مبهم يشمل غالبًا الخطاب والنشاط السياسي السلمي. وقد أُعتقل الآلاف بناءً على توصيات هذه الأنظمة، التي يرى خبراء حقوقيون أنها غير دقيقة وتفشل في الحد من العنف.

ويفيد التقرير بأن السلطات الإسرائيلية شددت منذ السابع من أكتوبر 2023 مراقبتها للفلسطينيين في القدس، حيث انتشرت الحواجز الأمنية المتنقلة ودوريات الشرطة، وتزايدت عمليات مداهمة المنازل. كما ازداد اعتماد السلطات على وسائل التواصل الاجتماعي، الاستطلاع بالطائرات المسيّرة، أنظمة الدوائر التلفزيونية المغلقة، والمراقبة الرقمية لتتبع المدنيين وتوقيفهم. وردت إفادات عديدة عن ممارسات مهينة، مثل تفتيش المدارس الابتدائية في البلدة القديمة، توقيف المسافرين يوميًا عبر الحواجز الأمنية دون أي سبب، ومداهمة المنازل والمشافي والمدارس بشكل تعسفي. وقد بلغت معدلات الاعتقال أعلى مستوياتها في المنطقة، وفقًا لتقارير الأمم المتحدة.

وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" مدير وحدة الرصد والتوثيق في مركز "حملة"، أحمد قاضي، للإضاءة أكثر على الموضوع.

أحمد قاضي

"عرب 48": أشار التقرير إلى ارتفاع كبير في المراقبة الرقمية في القدس بعد السابع من أكتوبر 2023 وخلال سنة الحرب الماضية، مما أدى إلى عقوبات تعسفية طالت المئات من الشباب بشكل خاص؟

قاضي: عندما نتحدث عن التكنولوجيا الرقمية، لا نعني وسائل التواصل الاجتماعي فقط، رغم أن المراقبة عليها تعاظمت بشكل كبير منذ السابع من أكتوبر، وخاصة في الأشهر الأولى من الحرب. تُرجمت هذه المراقبة إلى اعتقالات وتحقيقات وتقديم لوائح اتهام ضد مئات الفلسطينيين من القدس وخارجها.

نحن نتحدث عن جميع وسائل المراقبة باستخدام التكنولوجيا، والتي أصبحت اليوم الوسيلة الرئيسية للرقابة والسيطرة، خاصة من قبل الدول التي تمارس الاحتلال وتخضع شعوبًا ومجموعات قومية أو دينية أخرى. هذا التقرير يأتي استكمالًا لتقارير وأبحاث سابقة أعددناها عن استخدام السلطات الإسرائيلية لهذه التكنولوجيا ضد أبناء الشعب الفلسطيني عامةً وفي القدس بشكل خاص.

منذ عام 2000، وخصوصًا بعد أحداث 11 سبتمبر وما تبعها من تطوير عالمي لتكنولوجيا الرقابة والسيطرة، تبنّت إسرائيل هذه المبادرة وبدأت كدولة احتلال بتطبيقها وتطويرها على نطاق واسع. ساعدها في ذلك استخدامها الأراضي المحتلة وسكانها كحقل تجارب، إضافة إلى تطورها الذاتي وارتباطها بالشركات الأمريكية الكبرى وعلاقاتها الأمنية الوثيقة بالدوائر السياسية الأمريكية والغربية عمومًا.

كما هو معلوم، فإن شركات تكنولوجيا الرقابة الإسرائيلية غالبًا ما يُؤسسها ويديرها ضباط متقاعدون من الجيش والدوائر الاستخبارية الإسرائيلية، مثل "الموساد"، "الشاباك"، و"وحدة 8200". هذا التلاحم بين التكنولوجيا والعسكر من جهة، ووجود شعب تحت الاحتلال محروم من أي حماية قانونية، يوفر لإسرائيل بيئة مناسبة للتجربة والتطوير وجمع البيانات وتحليلها. هذا كله ساهم في تطوير هذه التقنيات وجعل إسرائيل رائدة عالميًا في هذا المجال.

"عرب 48": لماذا التركيز على القدس بشكل خاص في موضوع استعمال تكنولوجيا الرقابة؟

قاضي: القدس لها خصوصية وطنية، سياسية، ودينية. فهي من جهة نقطة تماس قابلة للاشتعال وإشعال محيطها في أي لحظة، ومن جهة أخرى، ليست أرضًا محتلة وفق القانون الإسرائيلي، ما يعني أنها تخضع لسلطة الشرطة المدنية الإسرائيلية وليس لسلطة الجيش، مما يتطلب المزيد من وسائل الضبط والسيطرة باستخدام ما يمكن وصفه بـ"القوة الناعمة"، باستثناء حالات الانفجارات الكبيرة.

لهذه الأسباب، ومنذ عام 2000، بدأنا نلاحظ تغلغل تكنولوجيا الرقابة في القدس، خاصة من خلال إدخال مشروع "مباط 2000"، المرتبط بشرطة الاحتلال. يشمل المشروع البلدة القديمة بالكامل بـ 400 كاميرا مراقبة مزودة بتقنيات التعرف على الوجه، ومتصلة بعشرات الشاشات التي تغطي 95% من المدينة. وقد تم تحديث هذا المشروع في عامي 2014 و2017، مما جعل القدس واحدة من أكثر المدن مراقبة في العالم.

تشمل أدوات الرقابة التكنولوجية أيضًا استخدام الطائرات المسيّرة، خوارزميات التنبؤ بالسلوك "الإجرامي"، والتنصت على الهواتف. ويقر الإسرائيليون بأن لديهم القدرة على التجسس على جميع المكالمات باستخدام تقنية "بيغاسوس" وغيرها من التقنيات الحديثة، إلى جانب مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي. كذلك، تم تعزيز الحواجز الأمنية بتقنيات إلكترونية متطورة.

نتيجة لذلك، تم تفعيل وتعزيز أشكال متعددة من الرقابة والسيطرة بعد السابع من أكتوبر، واستُثمرت بشكل ممنهج لفرض قيود على حرية التنقل، التعبير، الخصوصية، والمشاركة الرقمية. كما استُخدمت لتبرير ممارسات مثل مداهمة المنازل والاعتقالات التعسفية، حتى دون ارتكاب أي مخالفة جنائية، وغالبًا ما انتهت هذه الحالات بفرض عقوبات صارمة عبر المحاكم أو أوامر الاعتقال الإداري التي تم استخدامها بكثافة.

"عرب 48": هل يمكن القول إن ما حدث هو استغلال منظومة الرقابة التي بُنيت على مدى سنوات طويلة لقمع محاولات التضامن مع غزة، وهي سياسة امتدت إلى مناطق 48؟

قاضي: نعم، الاحتلال استغل البنية التحتية التي بنّاها على مدى السنوات السابقة في إطار الحملة الشاملة التي شنّها على مختلف المناطق الفلسطينية. شملت هذه الحملة اعتقال الآلاف والزجّ بهم في السجون، ومن بين هؤلاء نُرجّح وجود مئات المقدسيين. تشير المعطيات المتوفرة حتى نهاية أبريل الماضي إلى تقديم 109 لوائح اتهام ضد مقدسيين بتهمة التحريض على الإرهاب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى الذين صدر بحقهم أوامر اعتقال إداري دون تقديم لوائح اتهام.

تم تقديم لوائح اتهام وفرض عقوبات صارمة على مجرد منشور على "فيسبوك" أو مشاركة منشور، وهو ما حدث أيضًا في مناطق الـ 48. أُضيف إلى ذلك إجراءات الفصل من أماكن العمل أو التعليم الإسرائيلية، حيث اتخذت 36 جامعة وكلية إجراءات تأديبية ضد 124 طالبًا من القدس والـ 48 على خلفية منشورات في وسائل التواصل الاجتماعي. انتهت نصف هذه الحالات (47%) باستبعاد الطالب مؤقتًا أو فصله نهائيًا من التعليم.

"عرب 48": لقد جرى فصل أشخاص من العمل لمجرد مشاركة منشور على مواقع التواصل؟

قاضي: نعم، في هذا السياق، تم فصل أطباء ومعلمين وممرضين من أماكن عملهم لمجرد مشاركة منشور أو إبداء الإعجاب به على مواقع التواصل الاجتماعي. إضافة إلى ذلك، تعرض بعض هؤلاء لاعتقالات مهينة، حيث يتم تقييدهم وتعصيب أعينهم وتصويرهم أمام علم إسرائيل قبل اقتيادهم إلى مراكز الاعتقال. هذه الاعتقالات غالبًا ما تتم بسبب استخدام زملاء لهم التكنولوجيا الحديثة للإيقاع بهم، إما بمشاركة المعلومات مع الشرطة أو إبلاغها بشكل مباشر. وقد تشكلت مجموعات مراقبة من أوساط اليمين خصيصًا لهذا الغرض.

الجانب الآخر يتعلق بالحواجز، حيث أصبحت السلطات خلال الحرب تفحص الهواتف الشخصية للمارين، بما في ذلك التطبيقات المثبتة عليها ومضامينها. يتم إيقاف كل من يعثرون على هاتفه تطبيقات معينة، مثل "تليغرام"، أو حتى من لا يجدون هذا التطبيق على هاتفه بحجة أنه قام بحذفه قبل الوصول إلى الحاجز. بعد ذلك، يتذرعون بوجود مواد "تحريضية" لإيقاف المارين لساعات طويلة، مع تعريضهم للضرب والإهانة، وأحيانًا للاعتقال.

هذه الممارسات كانت مكثفة في الأشهر الأولى للحرب، مما أعاق حركة تنقل العديد من الأشخاص وأضر بأعمالهم وتعليمهم، إضافة إلى تعرض المئات للاعتقال التعسفي.

"عرب 48": هل يمكن القول إن الحرب كانت بمثابة اختبار للبنية الرقمية التي بناها الاحتلال على مدى سنوات وقام بتفعيلها خلال هذه الفترة؟

قاضي: نعم، هذا صحيح. لقد كانت هذه الحرب أول اختبار فعلي في حدث سياسي كبير، وأظهرت البنية الرقمية التي بناها الاحتلال مدى قدرتها على الرقابة والسيطرة. من حيث تتبع الأشخاص والمعلومات، أظهرت هذه الفترة القدرات التي كانت موجودة منذ فترة طويلة ولكنها ظهرت للعامة بشكل أوضح وأوسع.

ما لاحظناه هو أن الاحتلال يسعى إلى التغلغل في أدق تفاصيل حياتك، سواء في العالم الرقمي أو خارجه. فأنت لا تستطيع التنقل بحرية، أو التعبير عن رأيك بحرية، أو الوصول إلى مكان عملك أو تعليمك في الوقت المحدد، وتشعر بأنك مراقب حتى داخل بيتك.

كاميرات المراقبة تغطي 95% من مساحة البلدة القديمة، وبعض السكان يقولون إن هذه الكاميرات موجهة حتى إلى نوافذ بيوتهم. بالإضافة إلى ذلك، هاتفك بما يحتويه من مضامين وأرقام ومحادثات مراقب أيضًا. ليس فقط عن بُعد، بل إنك معرض لأن يتم أخذ هاتفك من قبل الجندي الإسرائيلي على الحاجز أو في الشارع، لتفحص محتوياته، وقد يتم اعتقالك بسبب منشور أو صورة يعتبرونها "تحريضية".

لذلك، لا غرابة في أن 65% من الشباب المقدسي، وفقًا للاستطلاع الذي أجريناه لإعداد التقرير، أفادوا بأن الرقابة الرقمية أفقدتهم حريتهم على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الواقع. كما أنها قوضت قدرتهم على التنظيم أو العمل أو ممارسة أي شكل من أشكال التعبير السياسي.

إلى جانب ذلك، فإن لهذه الرقابة تأثيرًا كبيرًا على العمل، التعليم، والحياة الاجتماعية. هذا التأثير يشل حياة الإنسان الفلسطيني، خاصة المقدسي، ويشعره بأنه تحت السيطرة الدائمة، مما يجبره على ممارسة رقابة ذاتية صارمة على تصرفاته وأفعاله.


أحمد قاضي: باحث ومدافع عن الحقوق الرقمية، يشغل منصب مدير دائرة الرصد والتوثيق في "حملة" - المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي.