في أعقاب انهيار نظام بشار الأسد في سورية في أوائل كانون الأول/ ديسمبر الجاري، شرعت إسرائيل في سلسلة من العمليات العسكرية التي أسفرت عن احتلال أراضٍ إستراتيجية داخل سورية، وتهديد قرى كاملة بالإخلاء في محافظة القنيطرة ودرعا وريف دمشق، وتركزت هذه العمليات بشكل كبير على السيطرة على مرتفعات جبل الشيخ (الحرمون) من الجانب السوري، وتوّجه بنيامين نتنياهو بزيارة إلى المنطقة، وأعلن أن القوات الإسرائيلية ستبقى في منطقة عازلة داخل سورية، وتحديدًا في منطقة جبل الشيخ، حتى نهاية عام 2025 على الأقل؛ وصولاً إلى أقصى الجنوب وتثبيت نقاط مراقبة في صيدا الجولان وعدة قرى أخرى. جاء ذلك خلال زيارته للمنطقة برفقة قادة عسكريين وأمنيين، حيث أوعز للجيش بالاستعداد للبقاء في الجنوب السوري مع تسهيل كافة اللوجستيات للقوات العاملة، كون هذه المنطقة مهمة إستراتيجيًا بالنسبة لإسرائيل وتطل على أربع محافظات سورية رئيسية، وهي دمشق وريف دمشق والقنيطرة ودرعا، ويمكن من خلال هذه الهضاب الاستكشاف وتنفيذ العمليات العسكرية والاستخباراتية في الأراضي السورية.

الظاهر من هذه التحركات هو ضمان أمن إسرائيل، لا سيما بعد الفراغ الأمني والعسكري الكبير الذي أحدثه سقوط نظام الأسد وانسحاب جميع عناصر الفرق والألوية المحيطة في منطقة الجولان (والتي تسمى بألوية الجبهة)، مثل اللواء 90 الذي كان يشرف عليه زهير الأسد، واللواء 121 وسرية الدفاع الجوي في بلدة كناكر، إلى القطع الرئيسية المحيطة بالعاصمة السورية دمشق بين يومي 6-7 كانون الأول/ ديسمبر الجاري؛ وتأمين الحدود حتى قيام حكومة سورية جديدة تمكن تل أبيب من تقييم تحركاتها وتقييم إمكانية العمل معها واحترامها لاتفاقية فصل القوات لعام 1974، ويمنع أي نشاط معادٍ ضد إسرائيل. وقد أثار هذا الإعلان انتقادات من دول عديدة والأمم المتحدة، التي اعتبرت التوغل الإسرائيلي في المنطقة العازلة انتهاكًا للاتفاقات الدولية، ودعت إلى سحب القوات.

الخلفية والسياق

تاريخيًا، احتلت إسرائيل أجزاءً من هضبة الجولان السورية، بما في ذلك أجزاء من سفوح جبل الشيخ، خلال حرب حزيران/ يونيو 1967، وأعلنت ضمها في عام 1981، وهو ما لا تعترف به الأمم المتحدة، وبقيت هذه المنطقة بهدوء تام بفعل وجود قوات الأمم المتحدة وتثبيتها نقاط فض اشتباك بحسب اتفاقية فض الاشتباك عام 1974 وإنشاء منطقة عازلة بين خطي برافو من الجانب السوري، وألفا من الجانب الإسرائيلي، والذين يمتدان من نهر اليرموك جنوبًا حتى بيت جن في سفوح جبل الشيخ شمالًا. مارست قوات الأوندوفUNDOF مهامها في منطقة فض الاشتباك بناءً على قرار الأمم المتحدة رقم 338 الذي دعا إلى وقف عاجل لإطلاق النار بين الجانبين السوري والإسرائيلي. ومع بدء الثورة السورية عام 2011، والتصعيد العسكري والانتقال إلى مرحلة النزاع المسلح بين المعارضة والنظام المخلوع، انتقلت بعض الفصائل السورية المعارضة العسكرية إلى القنيطرة، وحصلت عدة حالات خرق من طرف النظام السوري المخلوع والجيش الإسرائيلي، امتدت الاشتباكات في القنيطرة إلى المنطقة العازلة، مما أجبر العديد من الدول المساهمة في قوة مراقبي الأمم المتحدة على إعادة النظر في مهمتها؛ بسبب قضايا السلامة والأمن والهدف الأساسي من البعثة. وفي أعقاب ذلك، سحب عدد من الدول المساهمة بقوات قواتها من قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك، مما أدى إلى إعادة تنظيم القوة في المنطقة العازلة.

وفي عام 2017 بدأ برنامج "المصالحة الوطنية" الذي رعته القوات الروسية، وانضمت قوات المعارضة المسلحة في القنيطرة إلى البرنامج، وانسحبت من المدينة القرى التي كانت تحت سيطرتها مثل كودنة وبريقه وبئر عجم وممتنة والحميدية؛ وحلت مكانها نقاط تثبيت روسية في 6 مناطق في القنيطرة، إلا أن الجيش الإسرائيلي تقدم في عام 2024، وبدأ بعملية تجريف في أكتوبر 2024، وانسحبت القوات الروسية إلى منطقة التلول الحمر وتل الحارة، دون أي تحرك أمام هذا التوغل.

تسارعت الأحداث، وتقدمت قوات المعارضة نحو دمشق بعد عملية ردع العدوان التي أطلقتها إدارة العمليات العسكرية، مما أدى إلى فرار الأسد وترك فراغ سياسي في السلطة. خلق هذا الوضع بيئة غير مستقرة على طول الحدود السورية، خاصة القريبة من إسرائيل. هذه المناطق شملت القنيطرة وريف دمشق الغربي وريف درعا الشمالي-الغربي، ولا سيما وأن جيش النظام السوري انسحب وأخلى المواقع الكبيرة على خطوط الجبهة.

التحركات العسكرية بعد الأسد

عقب سقوط الأسد، سارعت القوات الإسرائيلية لتأمين أراضٍ خارج خط وقف إطلاق النار لعام 1974، حيث دخلت قرى في محافظة القنيطرة وريف دمشق، واستقدم الجيش الإسرائيلي معدات وآليات وفرق طبوغرافيا إلى مناطق بيت جن وحضر وعرنة وقلعة جندل، وهي مناطق استراتيجية لكونها تشرف على سهول القنيطرة وريف دمشق من جهة، وتتصل بلبنان عبر منافذ وثغور جبلية، وكانت تستخدم بحد ذاتها لتهريب الأسلحة والبضائع بين البلدين، وخط إمداد غير شرعي لحزب الله من الجانب السوري؛ بالإضافة إلى توغله في عدة قرى في القنيطرة وأبرزها حضر والحرية وأوفانيا والحميدية، مع إنذارات بالإخلاء لتنفيذ عمليات مسح وتفتيش للبيوت والمزارع المحيطة لقرى صيدا ومعربة وكويا على الحدود مع الأردن. وفي الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الجاري، عبرت وحدات مدرعة إسرائيلية، بما في ذلك دبابات قتالية رئيسية، إلى الجولان وتقدمت نحو بلدات مثل خان أرنبة ومدينة البعث وتمركزت على مشارف خان أرنبة، وأعلنت بعد أيام قوات الدفاع الإسرائيلية على الجانب السوري من جبل الشيخ، في إشارة إلى انهيار اتفاقية فك الاشتباك لعام 1974 كتبرير لهذه التحركات.

عشية سقوط الأسد، نفذت إسرائيل ما لا يقل عن 500 غارة استهدفت المنشآت الحيوية العسكرية في دمشق وريفها وحمص وطرطوس وريف حماة، بالإضافة إلى غارات استهدفت ميناء اللاذقية دمرت فيها كل السفن الحربية الراسية في الميناء وأحالتها دمارًا لا تقوم له قائمة. المختلف هذه المرة هو أن سلاح الجو الإسرائيلي اخترق الأجواء السورية ونفذ هذه الغارات من فوق المدن السورية واستباح أجواءها، ليكون الهدف تدمير إرث القدرة العسكرية التي تركها جنود النظام وانسحب عنها. ونتيجة لهذا الخلل والفوضى الحاصلة يبرز لدينا مسألتان: الأولى هي أن سكان المناطق المجاورة للقطع العسكرية استولوا على أسلحة خفيفة ومتوسطة ومعدات ألغام وصواعق وصواريخ محمولة، وهؤلاء خارجون عن سيطرة أي قانون وبالتالي ليس من مصلحة إسرائيل ألا تضرب مراكز تجميع هذه الأسلحة لدى المدنيين؛ والثانية هي أن ما تخشاه إسرائيل بعد السيطرة على المدن من قبل الفصائل العسكرية المعارضة أن تنتقل الأسلحة التكتيكية وصواريخ اس-300 واس-400 والطائرات الحربية والمقاتلات إلى أيدي المعارضة المدربة بما يكفي لتشغيلها، وربما توجيهها نحو تل أبيب في يوم ما، وبالتالي كان من المهم القيام بضربات استباقية تشمل تدمير المعسكرات والفرق العسكرية السورية، بموازاة تنفيذ اجتياح بري في مناطق الجبهة.

أهمية جانب جبل الشيخ السوري

تحمل مرتفعات جبل الشيخ، وخاصة جبل حرمون، قيمة استراتيجية كبيرة لعدة أسباب تبدأ بالمخاوف الأمنية حيث يثير الفراغ السياسي في سوريا احتمالية سيطرة فاعلين غير حكوميين معادين، مثل حزب الله أو الفصائل الإسلامية المتطرفة، على مناطق قريبة من الحدود الإسرائيلية؛ وتأمين العمق الاستراتيجي مما يسمح بتخطيط دفاعي أفضل ومرونة عملياتية في حالة نشوب صراعات مستقبلية. ننتقل إلى الميزة الجغرافية:إذ يوفر جبل الحرمون، المعروف بـ "عيون إسرائيل"، نقطة مراقبة مهيمنة على جنوب سوريا وأجزاء من لبنان، بالنتيجة فالسيطرة على هذه الأرض المرتفعة تمنح إسرائيل قدرات مراقبة معززة وإنذارات مبكرة ضد أي تهديدات عسكرية من هذه المناطق. كما تشكل هذه السفوح منطقة عازلة أمنية تمكنها من ردع الكيانات المعادية، وتمنعهم من الاقتراب من الحدود الشمالية لإسرائيل، لا سيما وأن أهم خطة لإسرائيل هي تطويق حزب الله وتجفيف منابع التسليح والتمويل العسكري والاقتصادي بما يسهل القضاء عليه. وباحتلالها هذه الأماكن، تعزز تل أبيب موقفها التفاوضي في أي مفاوضات مستقبلية تتعلق بترسيم الحدود أو اتفاقيات السلام مع الحكومة الجديدة في دمشق، والتي عبر عنها القائد أحمد الشرع في لقائه مع BBC بحديثه أن هذه الاتفاقيات ستبقى على ما هي عليه في الوقت الراهن وسينظر بها وفق معيار مصلحة الشعب السوري بما يتوافق مع القرارات الأممية.

ومن أهم المسائل بالنسبة لتل أبيب في هذه المنطقة هو جغرافيتها المتنوعة وطبيعتها التي تعجّ بالموارد الطبيعية وأهمها الموارد المائية، حيث تعد منطقة سفح جبل الشيخ ومناطق البيئة في منطقة فض الاشتباك مصدرًا حيويًا للمياه، حيث تغذي نهر الأردن وتساهم بشكل كبير في إمدادات المياه لإسرائيل، مما يجعل السيطرة عليها ضرورة استراتيجية، ولهذا كان من مصلحتها الدخول إلى مناطق الحميدية وأم باطنة القريبتين من سد المنطرة وسد رويحينة الذين يعتبران أهم سدين في المنطقة المحاذية العمق الاستراتيجي: يوفر احتلال مرتفعات جبل الشيخ عمقًا استراتيجيًا أكبر لإسرائيل، مما يسمح بتخطيط دفاعي أفضل ومرونة عملياتية في حالة نشوب صراعات مستقبلية.

التبعات والنتائج المحتملة

تحمل هذه الخطوات الإسرائيلية تداعيات بعيدة المدى تشمل الاستقرار الإقليمي والعلاقات الدولية والتحديات القانونية. ففي حين تصف إسرائيل هذه الإجراءات بأنها دفاعية ووقائية، إلا أن احتلال سفوح جبل الشيخ وبعض القرى في منطقة فض الاشتباك قد يؤدي إلى تفاقم التوترات مع الدول المجاورة في ظل دعوات عربية لمطالبة إسرائيل بالانسحاب من الأراضي السورية والتنديد بالوجود الإسرائيلي في هذه المناطق. الوجود العسكري الإسرائيلي في الأراضي التي كانت خاضعة للسيطرة السورية سابقًا قد يُعتبر استفزازًا، ما يزيد احتمالية حدوث ردود انتقامية في ظل حالة الفوضى الأمنية الحاصلة في المنطقة، إذ إن تصاعد العنف في هذه المناطق يمكن أن يمتد إلى لبنان وربما إلى الأردن، ما يؤدي إلى مزيد من زعزعة استقرار الشرق الأوسط. يزيد الاحتلال من تعقيد علاقات إسرائيل مع الدول التي تعتبر تحركاتها انتهاكًا للقانون الدولي. إذا استمرت إسرائيل في احتلال هذه المناطق دون مسوغ قانوني واضح، فقد تواجه عزلة دبلوماسية أو عقوبات اقتصادية من بعض الدول والمنظمات الدولية.

بعد 7 أكتوبر 2023، وجدت إسرائيل مسوّغًا لضرب دول الجوار، لا سيما سورية ولبنان بجة إبعاد خطر حزب الله والمقاومة الإسلامية وتجفيف منبع الدعم. اليوم وبعد نجاح الفصائل السورية المعارضة بإبعاد الإيرانيين من سورية وتبديد قواتها، لم يعد هناك أي مبرر لإسرائيل لاحتلال أجزاء جديدة من البلاد وضمها، ضمن خطة استيطانية تبدو ملامحها واضحة بعد السماح لمستوطنين متشددين بزيارة جبل الشيخ، وقراءة نصوص تلمودية توراتية تعيد إحياء فكرة الاستيطان والأحقية بالأرض على حساب سكانها الأصليين.

ومع أن الولايات المتحدة قد تدعمها إستراتيجيًا، إلا أن هذا الدعم قد يتعرض لضغوط داخلية وخارجية إذا اتُّهمت إسرائيل بتجاوز الحدود المقبولة دوليًا. يشكل الاحتلال تحديًا مباشرًا للمبادئ الأساسية للقانون الدولي، خاصة تلك المتعلقة بالسيادة وحظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة. من المرجح أن تواجه إسرائيل دعاوى قانونية في المحافل الدولية، مثل محكمة العدل الدولية، حيث قد تطالب سورية أو من يمثلها بإجراءات قانونية لاستعادة الأراضي المحتلة أو المطالبة بتعويضات عن الخسائر الناجمة عن هذا الاحتلال. تتحدث تقارير إعلامية عن عمليات نزوح قسري وتأثيرات سلبية كبيرة على المجتمعات المحلية السورية في المناطق التي توغلت فيها إسرائيل وفرضت حصارًا وطوقًا أمنياً حولها. يعاني السكان من قيود على حركتهم، ونقص في الخدمات الأساسية، وإجلاء قسري من منازلهم وعمليات دهم وتفتيش ليلية-نهارية. كل هذه العوامل تزيد من تدهور الوضع الإنساني في هذه القرى، التي تعاني أصلًا من أزمات متعددة نتيجة سنوات الحر وتجاهل النظام السابق لها.

أما بالنسبة لحكومة دمشق الانتقالية التي يعمل على تشكيلها أحمد الشرع ( الملقب بالجولاني)ـ فإن السمة الغالبة في التعاطي مع هذه الاختراقات هي الدبلوماسية واللجوء إلى شبكة العلاقات الدولية للضغط على تل أبيب للتراجع عن خطط الضم وسحب قواتها بأسرع وقت، لا سيما وأن التوجه الآن ليس نحو إشعال حرب جديدة في البلد التي أنهكتها حرب دامت 13 عامًا، وإن الأولوية الآن لرفاهية الشعب السوري وتعويضه عن سنين النظام السابق العجاف.