مع تطوّر التكنولوجيا وأدوات البحث العلميّ، شهد العام 2024 موجة كبيرة من الابتكارات والتطوّر الطبّيّ، كفيلة بإعادة تعريف الرعاية الصحّيّة بشكل جذريّ، إذ وصل الأمر إلى العلاجات للأمراض النفسيّة مثل الذهان وانفصام الشخصيّة والزهايمر. تلك التطوّرات والاكتشافات العلميّة في المجال الطبّيّ تتعدّى كونها مجرّد نتائج لأبحاث علميّة متبوعة بتجارب سريريّة ناجحة، بل تشكّل آمالًا كبيرة في الشفاء وتحسين جودة الحياة لملايين المرضى حول العالم.
علاج الخلايا الجذعيّة يعيد البصر
يشير العلماء إلى أهمّيّة الطبقات الهشّة من الخلايا الّتي تلتفّ وتغطّي القرنيّة بسهولة، وهي الطبقة الخارجيّة للعين، بسبب الحروق والالتهابات والأمراض الّتي تصيب العين وحتّى الآثار الجانبيّة لبعض الأدوية. تعرف هذه الحالة باسم نقص الخلايا الجذعيّة الظهاريّة للقرنيّة، ويمكن أن تؤدّي إلى ضعف البصر، وفي حالات خطيرة أخرى إلى العمى الكلّيّ.
في الماضي، فشلت معظم المحاولات لاستبدال القرنيّة من خلال الزراعة؛ بسبب رفض الجهاز المناعيّ للإنسان للعضو الجديد في الجسم. ومع ذلك، مؤخّرًا، شرحت ورقة بحثيّة في مجلّة "لانسيت" The Lancet أوّل تجربة سريريّة في العالم أجراها فريق من جامعة أوساكا، بقيادة أستاذ طبّ العيون كوهجي نيشيدا، والّتي عالجت بنجاح أربعة مرضى يعانون من أمراض شديدة أصابت قرنيّة العين باستخدام الخلايا الجذعيّة.
تمّت العمليّة عن طريق زرع صفائح دائريّة من خلايا القرنيّة، تمّ توليدها باستخدام الخلايا الجذعيّة متعدّدة القدرات المستحثّة iPS والمشتقّة من دم الحبل السرّيّ، في أربعة مرضى تتراوح أعمارهم بين 39 و 72 عامًا، ويعانون من نقص الخلايا الجذعيّة الظهاريّة للقرنيّة. وأظهرت الدراسة أنّ المرضى قد استعادوا بصرهم، وأنّ التأثيرات المفيدة قد تظلّ إلى مدّة أربع إلى خمس سنوات مع المتابعة.
يقول نيشيدا "نخطّط لبدء تجربة سريريّة أكبر في النصف الأوّل من العام المقبل. وأعتقد أنّ الخلايا الجذعيّة المحفّزة متعدّدة القدرات يمكن استخدامها لعلاج أمراض العيون الأخرى، بما في ذلك مرض بطانة القرنيّة وكذلك أمراض الشبكيّة مثل التهاب الشبكيّة الصباغيّ".
المبايض الاصطناعيّة لعلاج العقم عند النساء
وفقًا لمراكز السيطرة والوقاية من الأمراض، فإنّ 13.4% من النساء في سنّ 15 إلى 49 عامًا يعانين من ضعف الخصوبة لأسباب مختلفة مثل متلازمة تكيّس المبايض وبطانة الرحم، بالإضافة إلى تأثير بعض الأدوية. وسعى العلماء، لسنوات عديدة، إلى معالجة هذه المشكلة من خلال تطوير مبيض اصطناعيّ، لكنّ الأمر ليس سهلًا، فلم يطوّر العلماء فهم لما يتطلّبه الأمر لإنتاج بويضة. في الوضع الطبيعيّ، بعد البلوغ، يكون لدى النساء ما يقرب من 300 ألف بصيلة مبيضيّة تنشط مجموعة صغيرة منها بشكل دوريّ، وتدخل إلى مرحلة النموّ، وهي عمليّة تتكرّر كلّ شهر حتّى الانقطاع.
ولكن، في وقت سابق من هذا العام، أنشأ علماء من جامعة ميشيغان أوّل "أطلس خلويّ" للخلايا البشريّة وهو مجموعة من خرائط مفصّلة للخلايا في جسم الإنسان بهدف فهم الصحّة والمرض. ويعمل الأطلس على تكوين البويضات البشريّة من خلال دراسة خمسة مبايض متبرّع بها باستخدام أحدث تقنيّات رسم الخرائط الخلويّة والجينيّة. ومن خلال فحص كيفيّة عمل البويضات وتغيير بنيتها مع تقدّمها عبر مراحل النضج المختلفة، حدّد العلماء العوامل الرئيسيّة الّتي تمكّن البويضة من النضج.
وتتوقّع أرييلا شيكانوف، الأستاذة المساعدة في الهندسة الطبّيّة الحيويّة في جامعة ميشيغان أن يؤدّي هذا الفهم إلى علاجات جديدة لمتلازمة تكيّس المبايض وبطانة الرحم، وربّما حتّى المبايض الاصطناعيّة الوظيفيّة.
وقالت شيكانوف "مع هذه المعرفة الجديدة بيولوجيًا، أصبحنا أكثر اطّلاعًا عندما نحاول إنشاء مبايض اصطناعيّة كعلاج محتمل للعقم عند النساء. ومع القدرة على توجيه نموّ البويضات وضبط بيئة المبيض، يمكن للأنسجة المبيّضيّة المصمّمة هندسيًّا أن تعمل لسنوات وحتّى تأخير انقطاع الطمث".
العلاج الجينيّ لعلاج الصمّ
يلعب جين أوتوفيرلين OTOF دورًا أساسيًّا في قدرتنا على السمع من خلال إنتاج بروتين يسمح بانتقال الأصوات من الأذن إلى المخّ. ويولد عدد قليل من الناس في العالم بطفرة موروثة تشكّل عيبًا في هذا لجين، ممّا يصيبهم بالصمّ بشكل كبير جدًّا لدرجة أنّهم لم يسمعوا صوتًا بشريًّا قطّ!
في وقت سابق من هذا العام، كشف فريق بقيادة جون جيرميلر، الجرّاح في مستشفى الأطفال في فيلادلفيا في الولايات المتّحدة، عن نتائج أوّل إجراء علاجيّ جينيّ على البشر قام بالفعل بعلاج فقدان السمع الوراثيّ لدى صبيّ يبلغ من العمر 11 عامًا عن طريق وضع جرعة صغيرة واحدة من جينات OTOF العاملة في خلايا أذنه الداخليّة.
ويعرف جين ف أوتوفيرلين بأنّه جين كبير بشكل خاصّ، وهي سمة كانت تعتبر في السابق تحدّيًا للعلاج الجينيّ، حيث إنّ هذه الجينات ثقيلة جدًّا بحيث لا يمكن حملها بواسطة فيروس معدّل واحد. ولكنّ جيرميلر وزملاءه قسموا الجين إلى جزءين منفصلين، وهو ما مكّن الفيروس من حمله، ثمّ إعادة تجميعه داخل خلايا المريض.
يقول جيرميلر "لم يسمع مريضنا الأوّل أيّ أصوات طيلة حياته. وبعد حوالي أسبوعين من الإجراء التجريبيّ، بدأ يلاحظ الأصوات، الّتي ازدادت قوّتها ووضوحها تدريجيًّا. وسرعان ما تمكّن من سماع والده يتحدّث إليه، وسماع السيّارات في شوارع فيلادلفيا. كان الأمر عظيمًا للغاية".
أدوية الزهايمر
يعتبر مرض الزهايمر السبب الرئيسيّ للخرف، ويصيب حوالي سبعة ملايين شخص في أوروبا. في الوقت الحاليّ لا يوجد علاج للمرض الّذي يصيب الدماغ، لذا يركّز العلاج على إبطاء تقدّمه وإدارة الأعراض.
مؤخّرًا، أثارت دراسة هولنديّة حديثة الكثير من الآمال في أن تصبح علاجات المرض أكثر فعّاليّة، إذ حدّد الباحثون الهولنديّون خمسة "أنواع فرعيّة جزئيّة" من مرض الزهايمر، ولكلّ منها "اختلافات واضحة" في جيناتها، وفي "الخصائص السريريّة" الّتي يظهرها المرضى، حسب موقع "لايف ساينس" LiveScience.
وتمكّن الباحثون من تصنيف أكثر من 400 مريض مصاب بالزهايمر إلى هذه الأنواع الفرعيّة الخمسة، حسب مستويات "البروتينات المحدّدة في السائل النخاعيّ"، وهو سائل شفّاف يتدفّق حول الدماغ والحبل الشوكيّ. وهذه البروتينات هي الّتي ترتبط بالعمليّات البيولوجيّة الّتي "تخرج عن مسارها في مرض الزهايمر".
وتمثّل نتائج الدراسة "خطوة مهمّة" نحو القدرة على إعطاء كلّ مريض بالزهايمر "أفضل دواء له في المرحلة المناسبة من مرضه" لإدارة الأعراض بشكل أفضل وإبطاء تقدّم المرض.
لقاحات السرطان
تجري الآن تجارب سريريّة لمرضى السرطان في المملكة المتّحدة، ويشارك المرضى الّذين يتلقّون العلاج في التجارب للقاح السرطان "الشخصيّ" الأوّل في العالم. وقالت هيئة الخدمات الصحّيّة الوطنيّة "NHS" في المملكة المتّحدة إنّ لقاح mRNA هو لقاح "مصمّم خصّيصًا" لكلّ مريض، ويعمل "من خلال تدريب الجهاز المناعيّ على التعرّف على الخلايا السرطانيّة وتدميرها ومنع انتشارها".
وقالت صحيفة "ذا جارديان" The Guardian إنّ تلك اللقاحات "تغيّر قواعد اللعبة، وتهدف إلى توفير علاج دائم"، مضيفة أنّ تلك الحقن "مصمّمة خصّيصًا لأورام الفرد" بشكل شخصيّ حسب الجينات وبناء الخلايا في الجسم.
وتركّز التجارب، الّتي تجري في 30 موقعًا مختلفًا بالشراكة مع شركة أبحاث لقاح "بوينتيك" mRNA BioNTech المسؤول عن لقاح فيروس كوفد 19. وبدأت التجارب على المرضى الّذين يعانون من سرطان القولون والمستقيم والجلد والرئة والمثانة والبنكرياس والكلى.
وعلى الرغم من التجارب السريريّة لا تزال في مراحلها المبكّرة، إلّا أنّ الأبحاث أظهرت أنّ لقاحات السرطان يمكنها بالفعل أن تكون فعّالة في قتل أيّ خلايا أو أورام خبيثة متبقّية بعد الجراحة وبالتالي خفض خطر عودة السرطان بشكل كبير. وأشادت أماندا بريتشارد، رئيسة هيئة الخدمات الصحّيّة الوطنيّة في المملكة المتّحدة، بالتجارب باعتبارها "لحظة تاريخيّة" للأشخاص المصابين بالسرطان.