غريزة الانتقام، إحدى أكثر الصفات الملازمة للإنسان منذ وجوده. من خلال الانتقام يحرّر الإنسان نفسه من الشعور بالضعف أمام الخصم الّذي تسبّب له بالأذى الجسديّ والنفسيّ والمعنويّ. الانتقام يساعده على استعادة توازنه النفسيّ وثقته بنفسه بين أبناء مجتمعه، كذلك يمنحه شعورًا بالنشوة والراحة، ويرتفع في جسده مستوى الأدرينالين. لهذا ولكي يشعر المنتقم بالنشوة، يجب أن يعرف عدوّه أو خصمه أنّه هو بنفسه الّذي سبّب له الأذى، وإلّا، فهذا لا يعتبر انتقامًا، وعادة لا يسبّب له المتعة المرجوّة، يعني إذا كان أحدهم قد أذلّ آخر، وضربه واعتدى عليه بصورة ما، ثمّ سقط المعتدي في حمّام بيته، وكسرت ساقه وفقد وعيه لعدّة أسابيع. فهذا لا يمنح المتعة المرجوّة للمنتقم، إنّه يشمّت فقط، ولكن ما حدث ليس بقوّته، ولا يردّ إليه اعتباره، ولا يعتبر انتقامًا، بل شماتة.
أمّا إذا اعترف المعتدي بأنّ ما جرى له في الحكّام هو جزاء له من اللّه؛ لأنّه اعتدى على فلان من الناس، وأخبر الناس بهذا، وعبّر عن أسفه وندمه، حينئذ يعتبر الانتقام وإن كان غير مباشر، وهنا يعتبر الضحيّة نفسه شريكًا، وذلك أنّ اللّه انتقم له ولأجله.
"العفو عند المقدرة"، ليس قبلها، وليس بالضرورة أن تقتل أو تعذّب عدوّك، العفو يعني أنّك أصبحت قادرًا على أن تؤذي، ولكن ترفّعت عن الإيذاء، واكتفيت بنظرة فوقيّة إلى خصمك بأنّك سامحته، وسيضطرّ لشكرك على تسامحك، وينحني لك باحترام أمام الناس، وأن يشيّد بأخلاقك، وأنّه سيبقى مدينًا لك مدى الحياة.
هذا العفو يمنح المتعة نفسها الّتي يمنحها الانتقام بالضرب أو القتل، وقد يزيد في بعض المجتمعات العربيّة، حيث يشيد مجتمع كامل بالموقف، ويرفع من قدر صاحبه.
تنشر في هذه الأيّام تسجيلات لأعمال انتقاميّة يقوم بها مسلّحون من هيئة تحرير الشام، يتخلّلها إهانات تبدو وكأنّها على قاعدة مذهبيّة، حيث يسأل الشبيح عن مذهبه! أو ديانته. هذه الانتقامات وبهذه الطريقة لا تبشّر بخير لسوريّة ولا لأمّتنا كلّها، لأنّ استقرار سوريّة على مبادئ العدل هي صمام أمان لسوريّة ولمن حولها، الآن وفي المستقبل.
هنالك مجرمون وما يطلق عليهم تسمية الشبيحة، من رجالات النظام السابق، ويجب محاكمة كلّ من على يديه دماء، من نفّذ ومن أعطى الأوامر، ولكنّ هذا يجب أن يجري فقط ضمن مؤسّسات الدولة، وليس في الشارع، وليس تحت شعار ما هو مذهبك؟ أو غيره! ممّا لا شكّ فيه أنّ هناك شبيحة ومجرمين من جميع أبناء المذاهب والطوائف، ويجب الانتباه أنّ هناك من ينشر مقاطع قد تكون قديمة، وله من نشرها مآرب خطيرة، وبعضها قد يكون مصطنعًا، يقصد منه تعميق الصراعات الداخليّة إلى المدى البعيد ودفع السوريّين إلى فوضى، وإلى عداء مؤبّد بين الطوائف عبر الأجيال.
بلا شكّ هناك عائلات فقدت أبناءها على يد النظام البائد، وبعضهم تعرض إلى اعتداءات على كرامته الشخصيّة، وعلى أبناء أسرته، وبعضهم فقد ماله أو بيته، والحقد والغضب كبير ومفهوم، ولكنّ كلّ هذا يجب أن يترجم إلى محاكمات عادلة، وليس إلى محاكمات عفويّة وفوضويّة في الشوارع أو البيوت والحارات.
فلتكن بداية جديدة في سوريّة، الّتي تعني سيادة القانون، وليس سيادة طائفة أو مذهب أو حزب أو فرد أو مجموعة من المتنفّذين كما كان حال النظام البائد.
مهما كان مستوى الغضب والرغبة في الانتقام والثأر، فإنّ قوانين أيّ دولة كفيلة بمعاقبة المجرمين من السجن مدى الحياة وحتّى الإعدام، كي يكون القانون فوق الجميع، وعبرة يستفيد منها كلّ الأطراف، بغضّ النظر عمّن يحكم البلد.
أمّا الإعدام العشوائيّ في الشارع وإبراز العنصر الطائفيّ للمعاقب، فهو يسيء إلى الثورة الّتي يجب أن تكون شاملة بكلّ نواحي الحياة.
والأمر بالأمر يذكر، فقد عبر كثيرون عن شماتتهم بالأميركيين، وذلك لما يحدث في فلوريدا من حرائق. حصدت حتّى الآن حوالي 200 كيلو متر مربّع، تقترب من مساحة ثلثي قطاع غزّة.
معاناة جزء أو شريحة من الشعب الأميركي بسبب كارثة طبيعيّة، لا يعني أنّ هذا انتقام إلهيّ من الأميركيين في لوس أنجليس؛ بسبب الدعم الأميركي للاحتلال في حرب الإبادة ضدّ قطاع غزّة.
لن نبكي لما يحصل في أميركا، ولا نشمت بأمر لم نصنعه نحن بأيدينا، فهذا لا يعبّر عن قوّة العرب! هو درس لم يصل إلى الإدارة أو الشعب الأميركي، فهم لا يعتقدون أنّ الحرائق غضب من اللّه؛ بسبب ما يحدث في غزّة! ولو أنّهم توصّلوا إلى هذه النتيجة لوصلت الرسالة، ولكنّ الأمر ليس كذلك.
سننتقم من أميركا عندما تستطيع أمّتنا أن تتّخذ قراراتها الّتي تخدم مصالح شعوبها، وليس بأوامر وخدمة أميركا والاحتلال.
ننتقم من أميركا عندما لا يحكم الوطن العربيّ أنظمة دمى لا تستطيع أن تتنفّس إلّا بأوامر من أميركا.
ننتقم من أميركا عند إسقاط الأنظمة الّتي تهيمن عليها أميركا، والّتي تخدم الاحتلال وأميركا، بل وبضعها يسهم بالإبادة الدائرة في قطاع غزّة، أمّا الشماتة بسبب كارثة طبيعيّة، فهذا لا يفي بالغرض، لا لدى الشامت ولا المشموت به.