يتسابق رجال الإطفاء لاحتواء حرائق الغابات في لوس أنجلوس، محاولين جاهدين استغلال فترة هدوء قصيرة في ظلّ الظروف الاستثنائيّة والخطيرة قبل أن تتسبّب الرياح العاتية في تأجيج النيران من جديد.

وقال حاكم ولاية كاليفورنيا جافين نيوسوم أنّ الحرائق الّتي دمّرت آلاف المنازل وأجبرت 100 ألف شخص على الإخلاء قد تكون الكارثة الطبيعيّة الأكثر تدميرًا في تاريخ الولايات المتّحدة.

لم تقدّم الكارثة أيّ استثناءات، فقد حوّلت النيران أحياء بأكملها إلى أنقاض مشتعلة، وسوت منازل الأثرياء والمشاهير والناس العاديّين بالأرض على حدّ سواء في أحد أشدّ المشاهد الكارثيّة في التاريخ الأميركيّ الحديث. وقال المسؤولون إنّ ما لا يقلّ عن 12300 مبنى قد تضرّر أو دمّر تمامًا.

وقال ليندسي هورفاث، مشرف مقاطعة لوس أنجلوس: "لقد شهدت مقاطعة لوس أنجلوس ليلة أخرى من الرعب والأسى الّذي لا يمكن تصوّره".

في الوقت الّذي كانت تحاول فيه شركات التأمين التعافي من الكوارث الطبيعيّة في السنوات الماضية، أتت بداية عام 2025 بحرائق الغابات الّتي أحدثت دمارًا كبيرًا في جميع أنحاء لوس أنجلوس، وأصبح من الواضح الآن أنّ الخسائر المؤمن عليها من الكوارث الطبيعيّة في العام الماضي ارتفعت إلى 140 مليار دولار، وهو أعلى مستوى منذ عام 2017 وأكثر من ضعف المتوسّط ​​​​على مدار الـ30 عامًا الماضية.

وتستهلك الحرائق المشتعلة حول سانتا مونيكا وماليبو بعضًا من أغلى العقارات في الولايات المتّحدة، ممّا يؤثّر على المناطق الّتي يزيد متوسّط ​​قيمة المساكن فيها عن 2 مليون دولار، وفقًا لشركة "أكيو وثرّ ال ان سي" AccuWeather Inc. وقالت الشركة إنّ الكارثة من المرجّح أن تتسبّب في أضرار وخسائر اقتصاديّة تتراوح بين 52 مليار دولار و57 مليار دولار.

وحسب البيانات الّتي جمعتها شركة "ميونيخ ري" Munich Re في تقريرها الصادر يوم الخميس، فإنّ الأعاصير ميلتون وهيلين، الّتي ضربت الولايات المتّحدة، كانت أكثر الكوارث الطبيعيّة تكلفة في عام 2024.

في السنوات الماضية تسبّب إعصار ميلتون، الّذي ضرب ولاية فلوريدا، في خسائر مؤمن عليها بقيمة 25 مليار دولار. ويشار إلى أنّ الإعصار كان قريبًا جدًّا من منطقة تامبا المكتظّة بالسكّان، ولكنّ السلطات الأميركيّة تجنّبت سيناريو كارثيًّا كان ليتسبّب في المزيد من الدمار. وقبل أسابيع فقط، أسفر إعصار هيلين عن خسائر بقيمة 16 مليار دولار.

وبلغ إجماليّ الأضرار الناجمة عن الكوارث الطبيعيّة 320 مليار دولار العام الماضي، وهو أعلى مستوى منذ عام 2021 حسب تقرير ميونيخ ريّ. وتعدّ الكوارث الجوّيّة مسؤولة عن 93٪ من الخسائر الإجماليّة، و97٪ من الخسائر المؤمن عليها. وقالت شركة إعادة التأمين إنّ حوالي 11000 شخص فقدوا حياتهم نتيجة للكوارث الطبيعيّة في عام 2024.

السيناريو الأسوأ يحصل بالفعل

تميل شركات التأمين إلى الاستجابة للزيادة في الكوارث الطبيعيّة بالتراجع عن بعض المناطقالّتي تحمل سيناريوهات كارثيّة وتعتبر محفوفة بالمخاطر للغاية بحيث لا يمكن تغطيتها. مؤخّرًا، 7 من أكبر 12 شركة تأمين على المنازل قامت "بتقييد" خدماتها في الولاية على مدار العامين الماضيين بسبب زيادة خطر الحرائق الناجم عن تغيّر المناخ.

حتّى صباح يوم الجمعة، تضرّر أو دمّر أكثر من 5000 مبنى بسبب حريق باليساديس، ولا تزال أربعة حرائق كبرى أخرى مشتعلة في جميع أنحاء المدينة مع تعرّض أكثر من 57000 مبنى لخطر شديد وإجلاء أكثر من 150 ألف شخص. وفي وقت متأخّر من يوم الخميس، قدّرت شركة جي بي مورجان تشيس أنّ الأضرار المؤمن عليها قد تتجاوز 20 مليار دولار ليصبح من المؤكّد أنّه أكثر حرائق الغابات تكلفة في تاريخ الولايات المتّحدة.

وقال مايكل سولر، نائب مفوّض قسم التأمين "إنّ استراتيجيّة التأمين المستدامة هذه مصمّمة لأحداث مثل هذه. وهي تهدف إلى استقرار سوق التأمين على المدى الطويل". ولكن لم يتمّ تطبيق سوى اللوائح الأوّليّة. وقد يأتي أيّ تأثير في استقرار شركات التأمين متأخّرًا جدًّا في مواجهة الالتزامات الضخمة الجديدة، وبالنسبة لبعض الخبراء، فإنّ ذلك مثير للقلق بشكل كبير وقد يزيد من احتمال انهيار سوق العقارات.

وكان الخبراء المزوّدون بنماذج المناخ يراقبون مثل هذا السيناريو بقلق، مدركين في السنوات الأخيرة أنّ حرائق الغابات لديها الآن إمكانيّة مماثلة لدفع النظام نحو الانهيار. حدثت الكارثة بالفعل، وأصبحت حياة الناس تكون في خطر، وتزعزع الاستقرار في سوق العقارات السكنيّة في كاليفورنيا البالغ 10 تريليون دولار.

ولم يأت الأمر مفاجئًا، فقد قامت مجموعة بحثيّة بدراسة أسوأ السيناريوهات في الماضي وقاموا بتصنيف ثلاث مناطق محدّدة في ولاية كاليفورنيا كمناطق معرّضة للخطر بشكل خاصّ وقادرة على التسبّب في تداعيات بعيدة المدى. وكانت إحدى هذه المناطق هي باليساديس، وهو حيّ في لوس أنجلوس تحوّل بالفعل إلى رماد.

يقول مايكل وارا، الباحث الكبير وخبير حرائق الغابات في جامعة ستانفورد "إنّ باسيفيك باليساديس تبرز بشكل كبير في سياق المناطق عالية الخطورة في كاليفورنيا". مضيفًا "أنّها مثل عين الثور، وتعدّ أحد المواقع الّتي يمكن أن تخسر فيها صناعة التأمين أكبر قدر من المال في غضون 24 ساعة". وكان وارا عضوًا بارزًا في مجموعة الخبراء الّتي عملت على تصوّر النتائج الكابوسيّة الّتي ستحلّ بالمرافق العامّة والشركات الّتي تديرها في الولاية قبل خمس سنوات.

وقد حدّدت نماذج المخاطر منطقة باليساديس، إلى جانب تلال لوس ألتوس في وادي السيليكون ومنطقة موراجا وأوريندا شرق سان فرانسيسكو، بسبب القواسم المشتركة الّتي تعدّ اشكاليّة مثل المنازل ذات القيمة الأعلى، والتضاريس الصعبة لمكافحة الحرائق، والتعرّض المتزايد للطقس العاصف والجافّ الملائم جدًّا للحرائق.

أزمة التأمين لم تبدأ الآن

إنّ ما يشار إليه غالبًا باسم "أزمة التأمين" في كاليفورنيا كان في طور التكوين لعدّة سنوات. إذ تسبّب حريق كامب المدمّر، بالقرب من مدينة تشيكو في عام 2018، في أضرار تقدّر قيمتها بـ 16.5 مليار دولار أميركيّ، وأدّى إلى خسائر كبيرة لشركات التأمين.

ونتيجة للكوارث في عام 2018، انخفضت عدد المنازل المؤمن عليها، وفي عام 2019 قفز عدد بوليصات التأمين للمنازل الّتي لم يتمّ تجديدها في كاليفورنيا إلى أكثر من 30%. وفي عام 2023، أعلنت شركتا التأمين العملاقتين، "ستيت فارم" State Farm و "أولستيت" Allstate أنّهما ستتوقّفان عن إصدار بوليصات جديدة لمختلف أشكال التأمين على الممتلكات في كاليفورنيا. قالت ستيت فارم إنّ هذه الخطوة جاءت استجابة للتضخّم و "التعرّض المتزايد والسريع للكوارث". في الصيف الماضي، ألغت التغطية لأكثر من ألف وخمسمائة منزل في باسيفيك باليساديس، المنطقة الثريّة الّتي بدأت أولى الحرائق فيها.

وحسب أحدث البيانات الصادرة عن إدارة التأمين في كاليفورنيا، بين عامي 2020 و2022، رفضت شركات التأمين تجديد 2.8 مليون بوليصة لأصحاب المنازل في الولاية. ويشمل ذلك 531000 بوليصة في مقاطعة لوس أنجلوس، حيث تشتعل الحرائق حاليًّا. وحسب المجموعة التجاريّة لصناعة التأمين، لم يجدّد أصحاب المنازل بعض هذه البوليصات. لكنّ معظم هذه البوليصات تمّ إلغاؤها من قبل شركات التأمين.

وقد استمرّت المشكلة في التراكم على مدى السنوات العديدة الماضية، كما يقول مفوّض التأمين بالولاية ريكاردو لارا ومجموعات حماية المستهلك. فقد رفضت شركات التأمين في كاليفورنيا إصدار بوليصات جديدة في المناطق الّتي تعتبرها معرّضة لخطر كبير من حرائق الغابات، والّتي تشكّل نسبة كبيرة من الولاية.

وأصبح التهديد المتزايد لحرائق الغابات، وتراجع شركات التأمين عن تقديم التغطية في مساحات كبيرة من كاليفورنيا المعرّضة لخطر هذه الكوارث المدمّرة، أزمة لأصحاب المنازل في جميع أنحاء الولاية. وبينما اتّخذت الولاية مؤخّرًا خطوات لمعالجة هذه القضيّة، فإنّ هذه القواعد الجديدة تثير الكثير من الانتقادات بسبب التكاليف المتزايدة والأقساط المرتفعة الّتي قد تصاحبها.

أجبرت مشكلة البوليصات الملغاة بعض أصحاب المنازل على الاستغناء عن تأمين الحرائق أو استخدام برنامج FAIR الّذي أنشأته الولاية، وارتفع عدد البوليصات المكتوبة بموجب خطّة FAIR بشكل حادّ. ورغم أنّ تأمين FAIR من المفترض أن يكون الحلّ الأخير للتأمين، فإنّ الطلب على بوليصاتها ارتفع بشكل كبير.

وارتفعت قيمة التأمين على المساكن اعتبارًا من سبتمبر/أيلول بنسبة 61% إلى 458 مليار دولار مقارنة بالعام السابق، وثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل أربع سنوات فقط. وارتفع التأمين على العقارات التجاريّة بشكل أسرع، حيث تضاعف تقريبًا إلى 26.6 مليار دولار اعتبارًا من سبتمبر/أيلول، وزاد بنسبة 464% في السنوات الأربع الماضية.

ومع ذلك، فإنّ القدرات الماليّة للخطّة الحكوميّة لا تعدّ كافية، إذ تمتلك الشركة الخاصّة الّتي تدير الخطّة 200 مليون دولار أميركيّ احتياطات و2.5 مليار دولار من أقساط فقط، ممّا يهدّد بفشل النظام بأكمله. وحسب بلومبيرغ، يضع هذا النقص عددًا كبيرًا من أصحاب المنازل من دون تأمين كاف، أو من دون تأمين على الإطلاق، خاصّة أولئك الّذين تتجاوز ممتلكاتهم الحدّ الأقصى لتغطية البرنامج البالغ 3 ملايين دولار.

لا شكّ أنّ كاليفورنيا ليست الولاية الوحيدة الّتي تواجه أزمة تأمين ناجمة عن تغيّر المناخ. فبعد سلسلة من الأعاصير المدمّرة، هارفي في عام 2017، وإيدا في عام 2021، وهيلين وميلتون في عام 2024، يجد أصحاب العقارات في ولايات فلوريدا ولويزيانا وتكساس صعوبة متزايدة في تحمّل تكاليف التأمين أو حتّى الحصول عليه. والوضع مماثل في كولورادو، حيث تتزايد مخاطر حرائق الغابات، كما هو الحال في كاليفورنيا.

الاحتباس الحراريّ

وتزامن ارتفاع الكوارث الطبيعيّة مع ارتفاع "سريع" في درجات الحرارة. ويعدّ العام الماضي العامّ الأكثر سخونة على الإطلاق على كوكب الأرض، حيث سجّلت خدمة كوبرنيكوس لتغيّر المناخ التابعة للاتّحاد الأوروبّيّ متوسّطًا عالميًّا بلغ 1.62 درجة مئويّة فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعيّة، متجاوزة العتبة الحرجة البالغة 1.5 درجة مئويّة.