بعد التوقيع على اتّفاقيّة وقف حرب الإبادة، من المفترض أن تتوقّف مقتلة العصر، ويتوقّف سيل الدم، وينتهي الرعب، الفرديّ والجماعيّ. تلك هي اللحظات الأولى المبشّرة الّتي تأتي بعد سريان الاتّفاق. هذا ما يفترضه المنطق. لكن أيضًا يشكّل التوصّل إلى الصفقة، انهيارًا لوهم "النصر المطلق".
بذلك، ينتزع أهل غزّة الحياة من بين أسنان الجلّاد، ويحبطون مخطّط الإبادة والتهجير الشيطانيّ، جلّاد عرفت البشريّة، وأوروبا بشكل خاصّ في الحرب العالميّة الثانية، نموذجًا أباديًا شبيهًا له. ذلك الجلّاد الأوروبّيّ، ظلّ ملاحقًا، ومطاردًا، فعليًّا ورمزيًّا، حتّى اليوم. وجلّاد اليوم يتحوّل إلى كيان مارق، منبوذ، وسيصبح مطاردًا من قبل شعوب الأرض، إلى أن تضيق الدائرة على رعاته في الغرب، والمتواطئون معه في الشرق، ويضطرّون إلى دفع الثمن وإحقاق الحقّ. في المقابل، فإنّ أصحاب الحقّ، وضحايا نكبة 48، وضحايا حرب المحو، الّذين صبروا وصمدوا، داخل قطاع صغير محاصر، وثابروا على الصبر، انتصروا على الموت وعلى التهجير. وسيظلّ الّذين قضوا، تلك الأرواح الّتي أزهقت بوحشيّة منقطعة النظير، شاهدًا على عار أنظمة الغرب، ومصدرًا لنقمة أجيال تنهض مجدّدًا، لتحوّل نقمتها إلى طاقة تحرّر وبناء وأمل.
نعم تتوقّف المقتلة، ولكنّ الجراح عميقة وعميقة جدًّا، جسديّة ومادّيّة ومعنويّة ونفسيّة. وسيجد الناس بعد وقف النار، أنفسهم أمام مرحلة التعافي، وهي مرحلة تختلط فيها الأحزان ومشاعر الفجيعة وآلام الفقدان الّتي لا توصف؛ فقدان الأحبّة والأصدقاء والجيران والزملاء، فقدان البيت، فقدان المدينة والمخيّم والقرية، تختلط مع مشاعر الإصرار على إعادة البناء، وعلى مواصلة الحياة. إنّها خسارات مهولة، حدثت بسبب مستعمر متوحّش، مريض، أدمن على العربدة، والتنكيل بأصحاب الأرض الأصليّين على مدار أكثر من قرن، رافضًا الإنصات لصوت العدالة والسلام والأمن، ورادًّا بوحشيّة على كلّ محاولة لمقاومة الظلم، وللعيش الإنسانيّ المشترك، الطبيعيّ والعادل.
مسار اليوم التالي، وصراعات الساحة الإسرائيليّة
بموازاة هذا المسار الإنسانيّ، هناك المسار السياسيّ وهو الأخطر خاصّة على المدى القريب والمتوسّط. هذا المسار الّذي يسعى إلى احتكار تشكيله وبلورة معالمه، محور غربيّ معاد ومعه أنظمة عربيّة تتفاوت في ما بينها في درجة العداء أو التعاطف مع قضيّة فلسطين، وإن كان طوفان الأقصى قد عراهم جميعًا.
كلّ ذلك يحصل في ظلّ مخطّطات لإعادة رسم خرائط جديدة، للمنطقة، وإعادة تأهيل إسرائيل كقوّة إقليميّة مهيمنة، وذلك بعد فشل حسابات محور المقاومة، وقراءات خاطئة، رغم ما قدّمته المقاومة اللبنانيّة واليمنيّة من دعم وإسناد. ومن هذه الحسابات الخاطـئة، التعويل على الأمّة العربيّة والإسلاميّة لنصرة فلسطين، كذلك سقوط نظام تمّ تسويقه كنظام مقاوم، ودعم بالمال والسلاح، في حين هو نظام فاسد وقاتل، وجبان. ومنها أيضًا، استنفار الغرب كلّه، للدفاع عن قلعتهم المتقدّمة، مقابل لا فاعليّة وسلبيّة قوى كبرى أخرى، مثل روسيا والصين، اللّتين ليست لديهم أيدلوجيّة مناهضة للكولونياليّة أو للرأسماليّة المتوحّشة. لا شكّ، وأنّه باعتراف الخبراء، أجانب وإسرائيليّون، أنّ عمليّة طوفان الأقصى، كانت تجسيدًا لمقدرة مدهشة على التخطيط والتنفيذ، والجرأة، والإيمان، غير أنّ آخرين يحكمون على العمليّة من خلال النتائج، والنتائج يختلف فيها الكثيرون، بما فيها الفلسطينيّون.
سيناريوهات عديدة متوقّعة للمنطقة، وللمنظومة العالميّة، خاصّة بعد أن تحوّلت قضيّة غزّة إلى قضيّة عالميّة، تتشابك فيها المصالح، وتتوزّع بين تجاذبات إقليميّة ودوليّة، ذات أبعاد جيوسياسيّة، واقتصاديّة، وإيدلوجيّة، مضافًا إلى ذلك سقوط النظام في سوريا، وأبعاده على معادلة الصراع الإقليميّة والعالميّة. الوضع متشابك ومعقّد، والتفاعلات مستمرّة وشديدة السيولة، ومفتوحة على تطوّرات غير متوقّعة.
ستزداد محاولات رسم وتوقّع السيناريوهات، من المحلّلين، وكذلك ستتواصل مخطّطات محور الإبادة، وأتباعه في المنطقة، لتجيير كلّ ما حصل لصالحه. ولكنّ النقاش وربّما الصراع الداخليّ سيتّسع ويحتدّ في ساحتين محلّيّتين؛ الساحة الفلسطينيّة والساحة الإسرائيليّة.
في الساحة الفلسطينيّة؛ سيجد الفلسطينيّون أنفسهم أمام تراكم من القضايا القديمة الّتي لم تجد لها حلًّا، في السابق، والآن أمام قضيّة آثار عمليّة "طوفان الأقصى" الّتي، وإن حظيت بتأييد غالبيّة الشعب الفلسطينيّ، باعتبارها ردًّا طبيعيًّا على حصار وحشيّ طويل، واستعمار استيطانيّ مفتوح وشرّه، فقد عادت سلطة رام اللّه، الّتي ظلّت مسترخية في دورها التقليديّ المرسوم أساسًا من العقيد الأميركيّ دايتون، إلى تأجيج الهجوم على حركة حماس وفكرة المقاومة. والآن تواصل حملتها ضدّ المجموعات الفدائيّة والمخيّمات الفلسطينيّة في شمال الضفّة الغربيّة، كلّ ذلك أضاف جبالًا من التحدّيات، بل عمق الشرخ الداخليّ والجرح العامّ، وخلق عوائق فعليّة ونفسيّة هائلة أمام إصلاح الحالة الفلسطينيّة الداخليّة الكارثيّة. ستصعد سلطة رام اللّه حملتها الإعلاميّة ضدّ حركة حماس معتبرة إيّاها مسؤولة عن كلّ ما جرى في غزّة، ممّا يزيد حالة التوتّر والانقسام. وليس واضحًا ما إذا كانت نتائج طوفان الأقصى، فرصة لولادة الجديد أم تكريس القديم.
أمّا في الساحة الإسرائيليّة، فإنّها ستشهد تصعيدًا للجدل الداخليّ، حول المسؤوليّة عن الفشل في 7 أكتوبر، وعن الصفقة وإنهاء الحرب، والصراع حول الإصلاح القضائيّ، الّذي انفجر قبل 7 أكتوبر. ولكن وفقًا للخارطة الإسرائيليّة وميزان القوى في الخريطة الحزبيّة وحتّى المجتمعيّة، فـإنّ الغلبة لا تزال لليمين، بألوانه المختلفة. أي ليس بإمكانيّة المعارضة تغيير الحكومة، إلّا في حالة حصول الأحزاب العربيّة، مجتمعة على ما حصلت عليه في انتخابات عام ٢٠١٥، هذا في حالة عدم شطب بعضها على النحو المتوقّع.
لن تعود إسرائيل كما كانت قبل 7 أكتوبر. والمشروع الصهيونيّ دخل طورًا جديدًا من الأزمات، السياسيّة والاقتصاديّة والنفسيّة، والانقسامات الثقافيّة والمجتمعيّة. وأهمّها فقدان شعور الأمن، واتّساع الشكّ في أسطورة تحقيق الأمن لليهود في بلد مسروق ومستعمر.
ولهذا هناك سيناريو بإمكانيّة تحوّل لدى شرائح من المجتمع الإسرائيليّ ونخبه، نحو التخلّص من خرافات القوّة، والفوقيّة اليهوديّة. ولكنّ هذا التغيير يستغرق سنوات طويلة، بشرط توفّر عامل الضغط الخارجيّ (العالميّ، والفلسطينيّ، والعربيّ الشعبيّ) القويّ والمؤثّر. فما ارتكبته إسرائيل من جرائم حرب مروّعة، وإبادة مكشوفة، وفشلها في تهجير الشعب الفلسطينيّ، جلب لها أعداء جدد، وولد تحالفات شعبيّة واسعة في العالم ضدّ نظام الأبرتهايد. وبفضل طوفان الأقصى، رغم ما له وما عليه، أعاد القضيّة الفلسطينيّة الواجهة الدوليّة، بعد أن هُمِّشت، وشحن مجدّدًا أجيالًا جديدة من الشعب الفلسطينيّ والشعوب العربيّة، بوعي بحقيقة إسرائيل وأهدافها التوسّعيّة الإجراميّة.
ليس مطروحًا، في ظلّ هذا الواقع، حلّ سياسيّ عادل لقضيّة فلسطين. وسيجد الفلسطينيّون أنفسهم مرّة جديدة، أمام ملهاة "حلّ الدولتين"، لسنوات أخرى ليس بهدف مواجهة حلول طموحة وعادلة مثل تحقيق حقّ تقرير المصير للشعب الفلسطينيّ، بكافّة تجمّعاته، من خلال إطاحة نظام الأبرتهايد، بل بهدف منع إقامة دولة فلسطينيّة كاملة السيادة على جزء من أرض فلسطين، وهو ما تعلنه إسرائيل نظامًا ومجتمعًا.
وبناء على ذلك، سيتعيّن على القوى والفئات الشعبيّة الفلسطينيّة، تجنّب الوقوع في هذه الأوهام، والعمل وإعادة التنظيم في مواجهة نظام الأبرتهايد الكولونياليّ، تحت سقف حقّ تقرير المصير لشعبنا في الداخل والخارج، من خلال استثمار التحوّلات في الرأي العامّ الشعبيّ، لصالح فلسطين، وإخضاع إسرائيل للمحاكمة الدوليّة.