على أمل أن تكون حرب الإبادة الأشرس والأكثر دمويّة الّتي شنّتها إسرائيل بغطاء عسكريّ وسياسيّ أميركيّ غربيّ استعماريّ ضدّ الشعب الفلسطينيّ في غزّة قد وضعت أوزارها بتوقيع "صفقة الرهائن" ووقف إطلاق النار، فإنّ شعبنا قد طوى بذلك صفحة هي الأكثر نصاعة وبطولة في تاريخ كفاحه الوطنيّ الممتدّ على مدار مئة عام لأجل تحرير أرضه وإقامة كيانه الوطنيّ، وهي الأشدّ سوادًا وعارًا في تاريخ الحركة الصهيونيّة ودولتها العدوانيّة.
وقد وصف العديد من الباحثين هذه الحرب بأنّها الأشدّ استهدافًا وفتكًا بالمدنيّين في العصر الحديث، وفي مقارنة مع عمليّات الإبادة الّتي هزّت المجتمع الدوليّ في القرن الحاليّ، يتّضح على سبيل المثال أنّ حرب الإبادة الّتي تعرّضت لها قبائل "الروهينغا" في ميانمار قد قتل فيها 25 ألف إنسان، في حين قتل في عمليّات إبادة اليزيديّين من قبل تنظيم داعش في العراق 9100 إنسان نصفهم عبر القتل المباشر والنصف الآخر من الجوع والأمراض، بينما قتلت إسرائيل في القصف المباشر في غزّة ما يقارب 50 ألف فلسطينيّ.
وفي حين وصل عدد القتلى شهريًّا في غزّة 4000 آلاف إنسان، بلغ في حرب الإبادة في البوسنة 2097 قتيلًا في الشهر، حيث وصل العدد الإجماليّ إلى 63 ألفًا خلال أربع سنوات، وبينما قتل في أوكرانيا 0.45% من السكّان خلال سنة ونيف، وفي يوغسلافيا 0.5% من السكّان خلال 10 سنوات، وفي العراق 1% من السكّان خلال 20 سنة، فقد قتلت إسرائيل في غزّة 2% من السكّان في أقلّ من عام على الحرب.
أمّا الدمار الّذي أحدثته إسرائيل في غزّة، فقد فاق أيّ دمار أحدثته الحروب الحديثة، في أيّ من دول العالم ومدنه، حيث تشير التقديرات المحايدة أنّه جرى تدمير 70% من بيوت القطاع البالغة 349 ألف بيت و 50% من بناياته، إضافة إلى تدمير ثلثي مدارسه جزئيًّا وإخراج الغالبيّة الساحقة من مستشفياته عن الخدمة.
ويقدّر الخبراء أنّ الأضرار الّتي سبّبتها إسرائيل في قطاع غزّة هي من الأكثر دمارًا في حروب المدن في التاريخ الحديث، حيث تشير تقديرات بعض الدوائر الاستخباريّة الأميركيّة، أنّ إسرائيل قصفت حتّى نهاية كانون أوّل الماضي 29 ألف نوع من الذخائر، وللمقارنة فقد قامت أميركا بين سنوات 2000- 2004 بقذف 3700 نوع من الذخائر فقط على العراق.
أحد المؤرّخين وصف القصف الّذي قامت به إسرائيل على قطاع غزّة بالغارات الجوّيّة الّتي شنّها طيران الحلفاء على مدينة "درزدن" في مقاطعة سكسونيا الألمانيّة خلال الحرب العالميّة الثانية، والّتي وقعت بين 13- 14 شباط 1945 حيث تمّ إلقاء 3900 طنّ من القنابل بواسطة 722 طائرة بريطانيّة أسفرت عن قتل 25 ألف إنسان وتدمير المدينة بالكامل، حيث يعتقد أنّ قصف المدينة جاء كانتقام من قبل تشرتشل على قصف مدينة "كوبانتري" البريطانيّة.
الدمار الواسع الّذي سبّبه القصف الإسرائيليّ إلى جانب التهجير القسريّ المتمثّل بأوامر الإخلاء الّتي يصدرها الجيش الإسرائيليّ، حول أكثر من مليوني فلسطينيّ في القطاع إلى نازحين يسكنون في العراء في مناطق مكتظّة بالخيام أسمتها إسرائيل مناطق آمنة، رغم أنّها عادت وقصفتها مجدّدًا، وحرقت خيام النازحين أكثر من مرّة، وفي هذا السياق قال فيليب لازاريني المفوّض العامّ للأونروا أنّ 14% من مناطق قطاع غزّة البالغة 360 كم مربّع لم تشملها أوامر الإخلاء الإسرائيليّة، يعيشون في ظروف معيشيّة وصحّيّة غاية في الصعوبة.
يضاف إلى ذلك حصار التجويع الّذي يفرضه جيش الاحتلال على جميع مناطق القطاع وخاصّة شمال قطاع غزّة في محاولة لتهجير سكّانه، والّذي يشمل الطعام والماء والدواء وغيرها من الحاجات الأساسيّة، في إطار استراتيجيّة تحويل مجمل قطاع غزّة وخاصّة منطقة الشمال منه إلى مكان غير قابل للحياة.
خمسة عشر شهرًا صمد الشعب الفلسطينيّ في غزّة في حرب الإبادة تلك، ولم يرفع الراية البيضاء، واليوم يثبت بفرضه لوقف إطلاق النار في إطار صفقة التبادل بشروط إنهاء الحرب والانسحاب الإسرائيليّ الكامل من غزّة أنّه فعلًا شعب الجبّارين.