في رسالة من مجلس العموم البريطانيّ إلى سوق الأوراق الماليّة، كتب النائب ليام بيرن، إلى لجنة الأعمال والتجارة، طارحًا تساؤلات عمّا إذا كانت سوق الأوراق الماليّة لديها اختبارات "للتحقّق من صحّة البيانات" من قبل الشركات الّتي تسعى إلى الإدراج في البورصة البريطانيّة، "مع مراعاة ضماناتها ضدّ استخدام العمالة القسريّة في منتجاتها".
جاءت الرسالة بعد أن وصف أعضاء البرلمان أدلّة محامية عملاق الملابس الصينيّ "شي إن" Shein بأنّها "سخيفة" عندما رفضت أن تصرّح خلال مثولها أمام لجنة الأعمال والتجارة في مجلس العموم ما إذا كانت الشركة تبيع منتجات تحتوي على قطن من الصين. وأبلغ بيرن إدارة بورصة لندن أنّ أعضاء البرلمان "قلقون للغاية إزاء الافتقار إلى إجابات صريحة ومنفتحة".
وقد قوبل رفض المحامية المتكرّر للإجابة على أسئلة حول سلاسل التوريد والإدراج المحتمل في المملكة المتّحدة، بردّ فعل قاس من اللجنة في مجلس العموم، الّتي اتّهمتها بـ "الجهل المتعمّد". بدورها، اكتفت المحامية بينان تشو بالقول إنّ شركة شي إن لا تمتلك أيّ مصانع أو مرافق تصنيع، لكنّها تعمل مع شبكة كبيرة من المورّدين والمصنّعين، معظمهم في الصين، بالإضافة إلى مصنّعين في تركيّا والبرازيل. وأضافت أنّ الشركة تلتزم "بالقوانين واللوائح في البلدان الّتي نعمل فيها".
وتعدّ منطقة شينجيانغ، وهي المنطقة الّتي ترتبط بها اتّهامات دوليّة بإخضاع المسلمين الأويغور للعمل القسريّ، من المصادر الكبيرة للقطن في الصين.
صعود صاروخيّ
على مدار العقد الماضي وبعد تأسيسها في عام 2008 تحوّلت شي إنّ من علامة تجاريّة صينيّة غير معروفة إلى واحدة من أكبر تجّار التجزئة للأزياء السريعة على مستوى العالم. وتشير الأرقام إلى أنّ الشركة الصينيّة، الّتي تبيع مجموعة ضخمة من منتجات التجميل والمنزل، بالإضافة إلى الأزياء السريعة، ضاعفت أرباحها إلى أكثر من 2 مليار دولار أميركيّ العام الماضي، متجاوزة مجموعة الأزياء السويديّة "إتش آند إم" H&M و "برايمارك" في المملكة المتّحدة.
لم يخطر ببال رجل الأعمال الصينيّ تشو يانج تيان عندما أسّس الشركة في العقد الأوّل من القرن الحاليّ أن تصبح الشركة في أقل من 20 سنة من عمالقة تصنيع الموضة السريعة بعد أن كان الهدف الأساسيّ للشركة عند التأسيس هو بيع فساتين الزفاف عبر الإنترنت!
اليوم، تشحن شي إنّ منتجاتها إلى عملاء في أكثر من 150 دولة حول العالم.
ويعود نجاح الشركة إلى انخفاض الأسعار بشكل أساسيّ. إذ يبلغ متوسّط تكلفة قطعة الملابس الّتي تحمل علامة شي إنّ 9 دولارات أميركيّة، ولدى الشركة ما يصل إلى 600 ألف قطعة للبيع على منصّتها عبر الإنترنت، بالإضافة إلى الخصومات الكبيرة والأسعار الزهيدة، فساتين بقيمة 10 دولارات مثلًا، وسترات بقيمة 6 دولارات، وأسعار تقلّ عن 10 دولارات في المتوسّط. ممّا يجعل منافسيها مثل "زارا" أو "بوهو" غير قادرين على المنافسة.
يشير الخبراء إلى أنّ نقطة التحوّل الحقيقيّة للعلامة التجاريّة كانت أثناء جائحة كوفيد - 19. في ذلك الوقت انفجرت عمليّات التسوّق عبر الإنترنت بشكل عامّ، فارتفعت المبيعات وبدأت تتمركز العلامة التجاريّة كبديل زهيد للكثير من العلامات الأخرى.
واستخدمت الشركة وسائل التواصل الاجتماعيّ بشكل ذكيّ لتسويق منتجاتها، حيث قامت "بتجنيد" مؤثّرين ذوي شعبيّة كبيرة وطلّاب جامعيّين للترويج لملابسها على منصّات تيك توك وإنستغرام ويوتيوب، وقامت بتوفير "أكواد" خصم يمكن للزبائن استخدامها عن طريق المؤثّرين لشراء المزيد من المنتجات. بالإضافة إلى حصول المستخدمين على نقاط وخصومات لتسجيل الدخول يوميًّا ومشاركة المشتريات على وسائل التواصل الاجتماعيّ وإحالة الأصدقاء.
نموذج أعمال عالميّ
يشبه نموذج أعمال شي إنّ نماذج أعمال شهيرة عالميًّا مثل نموذج "امازون"، حيث تتعاون مع آلاف المورّدين من جهات خارجيّة الكثير منها في الصين والبرازيل وتركيّا، لتصنيع ملابسها ثمّ شحنها من مستودعات مركزيّة عملاقة.
وقامت الشركة بالاعتماد على نموذج "الاختبار والتكرار" الّذي اشتهرت به شركات الأزياء السريعة الأخرى. وحسب النموذج تقوم شي إنّ بإنتاج عناصر أو منتجات جديدة بأعداد صغيرة 100 - 200 قطعة على الأكثر "لتجربة" المنتج، ثمّ يعتمدون الإنتاج الموسّع لأيّ نمط ناجح. ويتيح هذا للعلامة التجاريّة أن تصنع تصميم أو قطعة جديدة في غضون 25 يوماً فقط، وهو أمر قد يستغرق المنافسين أشهر طويلة.
ولكنّ تلك الوسائل للتوسّع والإنتاج الهائل والسريع لا تخلو من العوائق الّتي تثير الكثير من التساؤلات حول عمل الشركة. إذ لا تزال الشركة تعاني من الجدل حول تأثيرها البيئيّ وممارسات العمل، بما في ذلك مزاعم العمل القسريّ في سلسلة التوريد الخاصّة بها. ويشعر الكثير من المدافعين عن البيئة بالقلق إزاء كمّيّة البلاستيك الّتي تستخدمها الشركة لتغليف منتجاتها وشحنها إلى كلّ العالم، بالإضافة إلى مخاوف بشأن التأثير البيئيّ لإنتاج الملابس منخفضة التكلفة بكمّيّات كبيرة، والنفايات الّتي تخلّفها.
في العام الماضي، دعت مجموعة من المشرّعين الأميركيّين إلى التحقيق مع الشركة الصينيّة بشأن مزاعم استخدام العمالة القسريّة للأويغور في الصين لصنع الملابس الّتي تبيعها.
وبالرغم من ردّ الشركة على دعوات التحقيق الأميركيّة بالقول "نحن لا نتسامح مطلقًا مع العمل القسريّ". وإطلاق وعود بالتحقيق في مثل هذه القضايا وتأكيدها أنّها تطبّق بشكل صارم مدوّنة السلوك الخاصّة بها، والّتي يجب على جميع مورّديها التوقيع عليها، وإطلاق منصّة إعادة بيع للمتسوّقين في الولايات المتّحدة وفرنسا لتعزيز أوراق اعتمادها الخضراء، والقول إنّ إنتاج الملابس في دفعات أصغر يعني أنّ القليل جدًّا من الموادّ يذهب إلى النفايات، لكنّ البعض يرى ذلك غير كاف.
في حزيران/يونيو 2024 كتب ماركو روبيو، العضو آنذاك في لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ الأميركيّ، إلى المستشار البريطانيّ آنذاك جيريمي هانت يحذّره من "مخاوف أخلاقيّة خطيرة" مشيرًا إلى "الروابط العميقة بين شين وجمهوريّة الصين الشعبيّة".
في آب/أغسطس، قالت شي إن إنّها وجدت حالتين من عمالة الأطفال في سلسلة التوريد الخاصّة بها وقامت الشركة بالتدقيق على الشركات الّتي تصنع الملابس الّتي تبيعها. وقالت الشركة إنّها علّقت مؤقّتًا الطلبات من المورّدين المعنيّين، ولم تستأنف العمل معهم حتّى قيامهم بحلّ المشكلة.
وصرّحت الشركة إنّها شدّدت الآن سياسات المورّدين الخاصّة بها. وبموجب القواعد الجديدة، أصبحت أيّ انتهاكات تتعلّق بعمالة الأطفال أو العمل القسريّ سببًا لإنهاء العقود على الفور. وقالت الشركة إنّ الحالتين اُكْتُشِفَتَا خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2023، ولم يتمّ العثور على أيّ منهما في الربع الأخير من العام.
وجاء ذلك بعد أسابيع فقط من صدور تقرير عن منظّمة الدفاع عن حقوق الإنسان السويسريّة "بابليك أي" Public Eye، والّذي جاء فيه أنّ العمل الإضافيّ المفرط لا يزال شائعًا بين العديد من العمّال في سلسلة التوريد الخاصّة بـ شي إن.
قرية شي إن
في الأيّام القليلة الماضية، أثار تقرير صادر عن هيئة الإذاعة البريطانيّة بي بي سي بعنوان "الحقيقة وراء فستانك الّذي يبلغ سعره 12 دولارًا: داخل المصانع الصينيّة الّتي تغذّي نجاح شي إن" الحديث حول الشركة العملاقة ونشاطها.
واستندت الصحفيّة "لاورا بيكر" إلى شهادات عدد من العمّال الّذين وافقوا على الحديث إلى الصحافة حول ظروف العمل في تلك المصانع. وأمضت الصحفيّة عدّة أيّام في حيّ بانيو في مدينة جوانزو، وهو الحيّ المعروف باسم "قرية شي إن". وتعدّ القرية الموطن لحوالي 5000 مصنع، معظمهم من موردي شي إن.
قال أحد العمّال "إذا كان هناك 31 يومًا في الشهر، فسأعمل 31 يومًا". وقال معظمهم إنّهم يحصلون على يوم عطلة واحد فقط في الشهر. يشار إلى أنّ بي بي سي قامت بزيارة 10 مصانع، وتحدّثت إلى أربعة مالكين وأكثر من 20 عاملاً. كما قضت بيكر بعض الوقت في أسواق العمل والمورّدين.
وحسب التقرير، إنّ القلب النابض لإمبراطوريّة شي إن هو قوّة عاملة تجلس خلف آلات الخياطة لمدّة 75 ساعة في الأسبوع في انتهاك لقوانين العمل الصينيّة. وحسب قوانين العمل الصينيّة، لا ينبغي أن يتجاوز متوسّط أسبوع العمل 44 ساعة، وتنصّ القوانين أيضًا على أنّ أصحاب العمل يجب أن يضمنوا للعمّال يوم راحة واحد على الأقلّ في الأسبوع.
تقول إحدى العاملات الّتي تبلغ من العمر عام 49، والّتي تقف عادة في زقاق، حيث يتجمّع نحو أشخاص حول صفّ من إعلانات الوظائف، بينما يفحصون نوعيّة الخياطة على سروال قطنيّ. "نحن نعمل عادة لمدّة 10 أو 11 أو 12 ساعة في اليوم. وفي أيّام الأحد نعمل أقلّ بثلاث ساعات"، بالإضافة إلى استراحات تناول طعام تقدّر بـ 20 دقيقة.
وتقول العاملة ذات الـ 49 عاماً "نحصل على الأجر مقابل كلّ قطعة. ويعتمد ذلك على مدى صعوبة القطعة. شيء بسيط مثل القميص يكلّف واحد إلى اثني يوان للقطعة، ويمكنني صنع حوالي اثنتي عشرة قطعة في ساعة واحدة". اليوان الصينيّ يساوي 14 سنتاً أميركيًا.
وحسب تقرير بي بي سي، والّذي يتوافق مع تقرير المنظّمة السويسريّة بابليك أي، فإنّ عدد من الموظّفين كانوا يعملون ساعات إضافيّة بشكل مفرط. وأشار التقرير إلى أنّ الأجر الأساسيّ دون ساعات العمل الإضافيّة بلغ 2400 يوان أي حوالي 326 دولاراً أميركياً، وهو أقلّ من 6512 يوان الّتي تقول رابطة الحدّ الأدنى للأجور في آسيا إنّها مطلوبة كـ "حدّ الأدنى". وأشار بعض العمّال الّذين تحدّثوا إلى بي بي سي إنهم تمكّنوا من كسب ما بين 4000 و10000 يوان شهريًّا.
في الداخل، حسب بي بي سي، لم تكن المصانع مكتظّة. فهناك ما يكفي من الضوء، وتمّ جلب مراوح بحجم صناعيّ للحفاظ على درجة حرارة ملائمة للعمل. وتحثّ الملصقات الضخمة الموظّفين على الإبلاغ عن العمّال دون السنّ القانونيّة، ويأتي ذلك استجابة للعثور على حالتين من عمالة الأطفال في سلسلة التوريد العام الماضي.
من جهة أخرى يشير جيو تشينغ أي، أحد موردي شين إنّ "شي إن تشكّل ركيزة أساسيّة لصناعة الأزياء"، مضيفًا "موعد سداد ثمن بضائعنا في اليوم الخامس عشر، وسواء كان بالملايين أو عشرات الملايين، فسوف يتمّ سداد الأموال في الموعد المحدّد". وقال مورد آخر "إنّ شركة شي إنّ لها إيجابيّاتها وسلبيّاتها. والأمر الجيّد هو أنّ الطلبيّات كبيرة في نهاية المطاف، ولكنّ الأرباح منخفضة ويتمّ تحديدها".
وبالنظر إلى حجمها ونفوذها، فإنّ شركة شي إن تتّسم بالقدرة على تقديم أسعار منخفضة، لذا يجب على أصحاب المصانع خفض التكاليف في أماكن أخرى، وهو ما ينعكس في كثير من الأحيان على أجور الموظّفين.
يأتي تقرير بي بي سي في وقت تواجه فيه لائحة من شركات تصميم الأزياء والموضة السريعة العالميّة العديد من المزاعم الّتي تواجهها شي إن. وتتضمّن اللائحة شركات مثل "إتش آند إم" و"زارا"، "أديداس"، "نايكي"، "وول مارت"، و "رالف لورين".
ويأتي تقرير هيئة الإذاعة البريطانيّة قبيل أيّام من تولّي الرئيس الأميركيّ المنتخب سدّة الحكم في البيت الأبيض، وتشير تصريحات الرئيس الأميركيّ عن سياسة شديدة، وربّما قاسية تجاه المنافس الصينيّ تتضمّن عدداً من التعريفات الجمركيّة الكبيرة للحدّ من النموّ الصينيّ.
ويعدّ مرشّح ترامب لوزارة الخارجيّة، ماركو روبيو، صاحب آراء قاسية تجاه عملاق الموضة الصينيّ، إذ عزى روبيو نجاح الشركة الصينيّة إلى "الأسرار القذرة" مثل "العمالة القسريّة والمصانع الاستغلاليّة والحيل التجاريّة"
في سياق متّصل، حاولت شي إنّ إدراج أسهمها في الولايات المتّحدة، ولكنّ هذه الخطط خرجت عن مسارها بسبب التوتّرات السياسيّة. وتواجه محاولاتها مخاوف في المملكة المتّحدة، حيث يقول البعض إنّ المخاوف بشأن المعايير البيئيّة والاجتماعيّة والحوكمة قد تثني المستثمرين.
بينما يقول آخرون إنّ مثل هذا الإدراج الكبير في لندن قد يكون مفيدًا للغاية، وقد يؤدّي إلى تعزيز الاقتصاد البريطانيّ، خاصّة وأنّ بورصة لندن تكافح لجذب شركات سريعة النموّ.