في غمار هجمة الإبادة على غزة منذ عام حتى كتابة هذه السطور، جالت الجامعات باحثة في تعِلّات وإمكانيات ردّها إزاء ما يجري.
إذ صارت الجامعات حول العالم إلى ميادين من الجدل والنزاعات حيث عمّت فيها دعوات الطلبة للمقاطعة والتجريد، وكثرت مبادرات المحاضرين والمحاضرات، وبرزت ممارسات القمع من قبل إداراتها. ومن هنا تنمّ بعض الأسئلة، مثلا: ما هو دور الجامعة المنشود حيال الإبادة؟ ما الذي تتطلّبه مهمة الجامعة لكونها جامعة؟ وما هو دور قادتها في الشط الراهن؟
قد تُوجّه هذه الأسئلة لأيّة جامعة كانت، غير أنّ الرسالة أدناه موجهة إلى جامعة إسرائيلية، وإلى رئيسها تحديدا، بروفيسور أرييل پورات، من قبل أحد أعضاء هيئة دائرة علم الاجتماع والإنسان فيها، بروفيسور خالد فوراني.
تندرج هذه الرسالة في حديث جار عقب اعتقال ومن ثم إطلاق سراح المحاضرة الفلسطينية في الجامعة العبرية، بروفيسورة نادره شلهوب-كڤوركيان. في الثلاثين من نيسان، ٢٠٢٤ بعث ثلاثة وسبعون فلسطينيّا من المحاضرين والمحاضرات الحاليين والسابقين برسالة إلى لجنة رؤساء الجامعات الإسرائيلية (أي، ڤيرا). يتألف هذا الجسم "ڤيرا" من رؤساء تسع جامعات بما فيها جامعة أريئيل.
تلقي تلك الرسالة بالمسؤولية العامّة على رؤساء الجامعات لما آل إليه الحال من القمع والتنكيل الذي أفضى إلى اعتقال زميلتهم. طالبَ كتبةُ هذه الرسالة عبر رسالتهم أن تطلق "ڤيرا" تصريحا يطالب فيه رؤساء الجامعات بإسقاط التهم الموجهة ضد زميلتهم، بروفيسورة شلهوب-كفوركيان، وأن يؤمّنوا سلامتها، وحريّتها الأكاديمية، وحقّها في حريّة الكلام. إذ قبل أيام معدودات، أصدرت "ڤيرا" تصريحا تبدي فيها قلقها إزاء ما وصفته "بمظاهرات عنيفة ومعادية للسامية في الجامعات الأمريكية".
يذكر الأكاديميّون الفلسطينيّون في رسالتهم، عملا فيه زعزعة للأمن وهو الإحالة إلى العمالقة، ذاك الشعب المذكور في النصّ التوراتي يوعز فيه إبادة هذا الشعب على يد بني إسرائيل، فيحيل المحاضرون، إلى حالة تمّ فيها استخدام هذه اللغة في خطاب أدلى به الرئيس پورات في جامعة تل-أبيب في السابع من نوفمبر، ٢٠٢٣. لقد رأت محكمة العدل الدولية في هذه اللغة تحريضا على الإبادة.
أما "ڤيرا" لم تُدلِ بدورها بأيّ تصريح عام ردّا على رسالة الأكاديميين والأكاديميات لها. أما ردّ پورات فجاء مباشرا منه شخصيا لسبعة من المحاضرين والمحاضرات في جامعته من الذين وقّعوا على الرسالة الموجهة إلى"ڤيرا". وقد دافع پورات في معرض ردّه عن إحالته للعمالقة وعن صونه للحريّة الأكاديميّة، داعيا المحاضرين والمحاضرات للتواصل معه مباشرة لو شعروا بشح أمنهم.
وعلى الرغم من مكوث خالد فوراني في ألمانيا لسنة تفرغ خلال العام الأكاديمي، إلا أن الشعور بالتهديد كان قد طاله شخصيا، كما يطال سائر الفلسطينيين والفلسطينيات في الأكاديميا، وكما يطال أيضا أقرباءه في غزة. لقد قضى خالد فوراني شهورا وهو يفكر فيما هو الرد الأنسب على رسالة الرئيس پورات. إذ أراد فوراني أن يعبّر لپورات عن هذا الشح في الأمن، طالبا منه، كونه رئيسا للجامعة أن يتبوّأ، قيادة تضمن الأمن والأمان والكرامة للجميع، بلا استثناء أو مفاضلة. بعث بروفيسور فوراني عقب عودته سالما إلى الوطن بعد قضاء سنة التفرغ، بالرسالة أدناه لبروفيسور پورات. أضيفت لاحقا بعض الهوامش للرّسالة الأصلية (باللغة الإنجليزية) لأجل التوضيح.
٣١ أغسطس، ٢٠٢٤
إلى الغالي أرييل (لو أذن لي بذلك)،
ثمّة حديث شريف ينأى عن الليبرالية الحديثة وقريب من تعاليم خلقية قديمة في الديانة اليهودية، يذكرنا فيه الرسول محمد (ص) بأن "أعظم الجهاد عند الله كلمة حق تُقال عند سلطان جائر". سأسعى في رسالتي هذه لأن أنطق حقا، فيما هو حقك، ومدركا لما هو مُستحق منك. أدعو المولى لأن تلازمني الحقيقة في كل كلمة. وأرجو أن تعذرني إن سهوتُ وشَطَنتُ عنها، وأرجو إنصاتك لها حين تسمعها.
ما أحثّك عليه مبدئيا هو أن تتّقي وتتقن قيادتك أكثر، عساك تتذكّر الحق، فتبني كلمتك مسندة به ومتبعة له، بدلا من أن تتبع غافلا من يقرّر عنك. فهذا أدنى ما تطلبه مهمّة القيادة. وفي لحظتنا الطوفانية الراهنة، القيادة الصادقة هي المطلوبة من كل من يتوخى النجاة من الغرق. حريّ بك، بل وحريّ بنا جميعا، أن نكون أصحاب موقف في هذه الأرض المخضبة بالدّماء وما أعوزها لاسترجاع الحق، والحرية والمساواة لجميع من فيها بين النهر والبحر وما بعدهما.
أنا مدين لك بثلاثة: بتقدير واعتذار، وبرسالتي هذه. أما التقدير فلأنني ما زلت أحمل معي عمق لمستك الأخلاقية عبر مكالمتك الشخصّية ذات صباح أحد أيام السبت قبل ثلاثة أعوام ونيّف لتطمئن فيها عليّ وعلى أسرتي حين غارت غوغاء من اليهود (يرافقهم "تسامح" أمن الدولة) على حارتنا مهدّدين حيفا الفلسطينية (1). كما أني أقدّر تميّزك على نظرائك في صونك للأمن الشخصي للأساتذة وصونك أيضا لصنف محدّد من الحريّات المدنيّة، وهي مسؤولية تنكّر لها بلا تلكُّؤ، كما يبدو، نظراؤك من رؤساء الجامعات. ومن خلال صونك لهذا الصنف من الحريات، فإنك تتفرّد دون نظرائك برغبتك الجليّة في الإنصات. ورغبتك هذه في الإنصات هي ما حثّني لأكتبَ لك رسالتي هذه. صاتَ صدى رغبتك هذه حتى وصلني هنا حيث أمكث لسنة التفرّغ الأكاديمية خارج البلاد. بعدي جسديا عن البلاد شوّش، بلا شك، قدرتي على متابعة سويّة لما تقوم به ليلا ونهارا، لتحمي هذا الصنف من الحريّات.
كما أنّي مدين لك باعتذار لأني أكتب لك رسالتي بالإنجليزية، التي لا هي لغتي ولا لغتك أصلا. فلا العربيّة متاحة لأسباب تخصّك، ولا العبرية متاحة لأسباب تخصّني. ومع أني أسعى إلى ترميم علاقتي بلغة عبرية وليدة البلاد، والتي لا يُعاب عليها (أي اللغة العبرية) استعمار الصهيونية لها، أجدني فيما آل العالم إليه أعتمد على تلك اللغة الغريبة المستعمِرة وألوذ إليها، لأكتب هذه الرسالة عسى أن تجري الكلمات من قلبي لتصب في قلبك.
أنتقل الآن لما أنت مدين به كونك قائداً للجامعة. أنت مدين لنا، نحن المحاضرين والمحاضرات ولمجتمعنا الفلسطيني الذي نعيش فيه، بل مدين في نهاية المطاف، لذاتك بإدراك والتزام بالأمان ليكون أكثر صدقا. أنا أحيل هنا لأمان بمعناه الأصيل وهو وليد البلاد، راسخا ومكتنفا لجميع الناس، لا كذوبا ولا مُتحيّزا مُجحفا. لقد دعوتنا بلطفك وكرمك أن نتواصل معك إن شعر أحدنا بالخطر. وهذا ما أقوم به الآن. حاجتي للأمان تنم، (وأعلم أن ما أقوله قد يصعق) أيضا من خطر داهم، يربض أحيانا في صوتك كما في صمتك، في أفعالك كما في سكونك.
لجوؤك إلى عبارة العمالقة الإبادية، مهما كانت نيّتك قياسيّة حين استخدمتها، تشكّل خطرا. تجنيدُك لتبرعات لأجل طلّاب يخدمون في جند الاحتياط لجيش قادته متّهمون بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، يشكّل خطرا(2). حشدُك لموارد أيديولوجيّة، رقابيّة، استراتيجيّة وغيرها من أشكال الدعم في خدمة مشروع الذبح في غزة المستلبس بالدفاع عن النفس هو أيضا خطر. صمتك المطبق أمام تدمير التعليم العالي في غزة يشكّل خطرا. فشلك في تدشين نقاش معمّق يدرس كيف وصلنا لهذه الطامة التي ضربت البلاد وشعوبها ودونها من الشعوب – لا مجرد بداية من السابع لأكتوبر، ولا منذ بضع سنين أو عقود من الزمن بل منذ قرن ونيّف، هذا الفشل هو أيضا بمثابة خطر.
صوتك، حين يصدح مدويّا ضد الهجمات على الديموقراطية، بينما تكتمه حين تهجم تلك الديموقراطية على حياة البشر، بما فيه عبر احتلالها الوحشي لهم، يشكّل خطرا. ارتيابك في شرعيّة الحكومة الراهنة، بالتزامن مع تنزيهك للعنف التكويني لدولتكم القوميّة -متلازمة العنف لدى كل دولة استعماريّة، يشكّل خطرا. ومبلغ هذا الخطر لديك، هو إعاقة كارثية لقدرتك على أن تسمع وترى كيف أنك تساهم في ترويج أحد أشكال العنف، وتناهض شكلا آخر من أشكاله في آن واحد.
لو أنصتّ وفكّرت مليّا، لأدركت هذا التفاوت في لغتك. في الوقت الذي تسعى فيه لحماية "الديموقراطية" وما لها من "سلطة القانون" فإنك تشارك في تطبيع عنف هذا القانون. إنك تطبّع عنف القانون حين يتماهى صوتك مع صوت الدولة، فيصير صدى لها. إنك تسمي الفظائع بصيغتها الحالية "حربا". وأما في جوانيّة ما تسمّيه "حربا" يكون "الذبح" و"الإرهاب" محصورا عند "الطرف الآخر" لا ما تقوم به دولتكم. فأمّا من الذي يقترف "العنف غير القانوني" وما هو "العنف القانوني" بل ما هو "القانون" يبقى في عداد أسئلة مندوحة تماما، لا حاجة لطرقها.
فمضمون ما يُسمّى "إرهابا" ومن يقترفه، كلاهما يبقيان في عداد البداهة التي لا حاجة لإخضاعها للتفكر، وللفكر ولنقده، والتي هي مهمّتنا الأساس في الجامعة. فمهمّة التعلّم، تلك التي تجلي الفكر وتصفّيه، بالذات حين تعتمد الجامعة على الدولة، هي مهمة يعلو شأنها، ولا يهبط، لأجل ضمان استقامة الجامعة. بل تصير هذه المهمة حاسمة ومصيريّة حين تحاول الدولة، في مجرى التاريخ الاستعماري، أن تستهبل وتخدر مُطَبّعةً لاحتلالها، وبذات الوقت مُتَخرّصة على المقاومة ضد الاحتلال في كل أشكالها، حتى المسالم منها، مفترية عليها فتنعتها دوما "إرهابا".
طالما أنت تسمح لعنف الدولة أن يلوذ إلى ما هو "طبيعي" و"قانوني" فأنت تقوّض مسعاك لتوفير الأمن والأمان لي. بل الأنكى من ذلك، أن حِسّك "بالأمان" بعينه فيه تعريض للخطر، في كل مرة أنت تغشي فيها عينيك وتقر أذنيك إزاء عنف الدولة. ما من نزعة إنسانية في منأى عن الخطر، ولها أن تبقى آمنة، حين ترضخ للجبروت المُشيطن والمنافي للإنسانية عند الدولة الحديثة. عنف الدولة هذا، الذي يبدو مُبرّرا بديهيّا و"قانونيّا"، من شأنه أن يَكفِتَ بالواقع فيجعله مُدمِّرا للجميع، سيان كانوا مواطنين من هذا "الوسط" أو ذاك ومن غير المواطنين كذلك.
حين تخشى "العنف" المخترق للقانون، وفي الوقت ذاته تطبّع عنف هذا "القانون" فاعلم أن الأمن لي ليس بالأذية الوحيدة. فأنت تعرّض نفسك كذلك للأذى. الخطر الرابض هنا، هو ليس بمثابة تهافت للمنطق المجرّد، بل إنه خطر خُلقيّ جاثم. والأمن منه هو أن تكون ذا قدرة سويّة على أن تسمع وترى وتحسّ العالم الذي يكتنفنا. حين تنأى بنفسك عن المأمن الذي يتأتى مع هذا المتّسع الخُلقي، فلنا أن نفترض أن لا نحن ولا قيادتك ولا حتى الجامعة التي اؤتمنت على قيادتها، في مأمن من ذاك الخطر.
فأين تقف أنت وقيادتك من هذا المُتّسع الخلقي، أخارجه أم داخله؟ أتتّسم فيه بقيادة على خُلق أم أنك تسعى إلى قيادة في اللاقيادة أم أنك تقف في برزخ بينهما؟ من المؤسف أن أجدك تقاد بدل أن تقود. بدل أن "تصنع التاريخ" من خلال وقوفك "خارج التاريخ" يبدو وكأنك استسلمت ورضخت لنزواته. ولو أنك تكبّدت عناء الاستقراء لِما قد يبدو بدهيّا فتساءل من باب التفكّر، كون التفكّر شكلا ثابتا من أشكال الإدراك، حتى تدرك حقيقة ما يبدو مهيلا مفزعا، سنعلم حينها أنك تقود. حين تتجرأ لتكون لا مُجرّد مقدام بين نظرائك، بل حين يقتضي الأمر، طارقا فوقهم وقصيّا عنهم وصامدا أمامهم، سنعلم حينها أنك تقود.
هذا "الانفراد" الذي هو من سِمات القيادة السويّة، يستلزم منك أن تجد موطئا لك خارج غلبة المنظومة التي تتحكم بمجتمعك، والقصد هنا الصهيونية. حين تتذكر ما تريد لك الصهيونية أن تنساه، بأن هذه الأرض لم تكن أبدا خالية من أهلها، وبأن كل من عليها ما بين النهر والبحر، لهم الحق المتساوي في الحياة، والحق المتساوي برثاء فاقدها، سنعلم حينها أنك تقود. حين تتجاوز بريق الكلمات المجازة، هاما بالعدالة للجميع، سنعلم حينها أنك تقود. وحين تدرك وتعي أن الأخطار التي تنمّ عن ذاك "التنسيق" (Gleichschaltung) (3) مع ولأجل الدولة، تفوق أخطار محاسبة غطرستها واستكبارها، سنعلم حينها أنك حقا تقود.
وما قمت به هو أنك ساهمت في تكريس وترسيخ الالتباس بين أمن اليهود وغلبتهم عرقيا، بدل أن تبدّده، وفي تكريس الالتباس كذلك الذي يساوي بين حرية اليهود، أو حرية أي شعب، مع سيادته. هذا الالتباس الفتّاك جلب سُمّا أوروبيا إلى فلسطين، أحيانا لمكافحة سموم أوروبية وأحيانا أخرى لنشرها متلبسة الترياق ضدها.
هذا الترياق الأوروبي، الذي أُعِدّ من خلال تركيبة تُحاكي القومية الأوروبية ورهابها من الغريب، مذعنا لهما في آن، هو صهيونية عصرنا الحديث. وحين أُغويتَ لتشرب من هذا الترياق المزعوم وتعمّم شربه، فأنت تكون قد لحقت بسرب الإدانات النزقة لما كان يمكن له أن يستعيد لك ولمجتمعك رصانة في العقل، والصحّة والحريّة.
تحت قيادتك تمضي الجامعة في سعارها مُحاربة المقاطعة الأكاديمية (4)، مثلا، دون أن تسعى نحو فهمها وفهم دوافعها وطموحها، مدركا أن الفهم يتباين عن التبرير. في الوقت الذي تصبو فيه إلى الديموقراطية، تعامل قيادتك حركة المقاطعة السلمية كأنها بدعة شيطانية. وهنا يطرح السؤال: لما لا تحضّ -مُتبوِّئا مكانتك القيادية- على التفكير كونه التفكير، بالذات لدى مؤسسة مؤتمنة عليه، لما فيه من مدعاة في هذا الشأن كما في غيره، للتفكّر والتناظر؟
بين الفينة والأخرى يُسأل الفلسطينيّون أيناه مانديلا الفلسطيني ومن يا ترى قد يكونه. وثمّة ميزة قيّمة في هذا السؤال رغم العلل التي تعتريه، فميزته التي أقصد أنه سؤال قابل وبسهولة لأن يُقلَب. إذن وأنت تقود، أنصت وتأمّل ودع فؤادك يسأل بما تُؤتيه من مسكنة وتذكرة: من أين سيظهر دي كليريك الإسرائيلي اليهودي، وفي أيّ الشروط؟ وحين تكون مُستعدّا لأن تدرك أن المعضل ليس في "الشارب" وحده (إن كان وزير هنا، أم رئيس وزراء هناك) بل في "الشراب" بعينه، تكون حينئذ القيادة الحقة في انتظارك. هل ستبقى على متن العربات العاديات صوب الهلاك، المشحونة بالصهيونية، آخذا بشعبك وشعبي على هذه الأرض إلى الهاوية أم أنك ستستجمع جأشك لتجنبنا الانهيال الهائل؟
فلنتذكر، حين تُؤتمن على قيادة جامعة، فإنك تُؤتمن بهذا على مهمّتها التأسيسية وهي التعلّم والإبحار فيه. جامعتنا، كغيرها من الجامعات حول العالم، قد اؤتمِنت على حماية أعظم الملَكات التي وهبت للبشر ألا وهي ملكة التفكّر. عبر التفكر نتعلم الحقيقة وكيف يتأتى الفرقان بينها وبين الكذب، بين الحسن والقبيح، بين الخير والشر، وبين السّعي لأجل الحق والصدّ عنه.
وبسبب تلك المهمة، حين ترأس جامعة فإنك تقدر على أن تمدّ حبل النجاة كما الهلاك، للأبدان كما للأرواح، للأفراد كما للشعوب. وثمة مسعى أطول من مجرد تدريب الفكر في تجنّبه للتهلكة في هذا العالم. فلو قدرت الجامعة على أن توالف وتجمع مسعاها لأجل المثل العليا كالعدالة للجميع – لا لبعضهم فحسب – قد تتمكن حينها من أن تشقّ سُبلا جديدة وغير معهودة للوجود.
إلا أنه في الواقع، فإن جامعة تل-أبيب تخلّ بهذه الأمانة، كأي جامعة قد تخلّ بها، حين تؤازر الدولة في قمعها لشعب آخر. على الرغم من أن جامعة تل-أبيب تمتنع حاليا من تقديم خدمتها كذراع جلية من أذرع الدولة الشرطية والرقابية وملاحقاتها القضائية، لكنها تبدو بذات الوقت مرتاحة، بل متحمسة كذراعها الأيديولوجية عبر التزام الجامعة لمساعي "الهسباراة". وهكذا تزاول الجامعة عملها في إنكار فلسطين، بدل من أن تسمح بعبور، ولو بقليل من النور، بدل من أن ترحب بأصوات جديدة، عصيّة ولربما "مُزندقة ومُهرطقة". هذا التنكّر لفلسطين هو ليس تنكّرا لماضٍ تقوم على أنقاضه الجامعة، والقصد هنا قرية الشيخ مؤنس المدمَّرة. بل هذا التنكر هو أيضا تنكّر لمستقبل كل شعوب البلد، كانت الدولة ما تكون، التي يجدر ويحق لها (أي لهذه الشعوب) ولذريتها من بعدها أن يهنئوا به بلا مفاضلة قوم على قوم.
المؤتمر الذي عقدته الجامعة مؤخرا عن المستقبل، يفصح عن إدراكك لأمر واحد ووحيد ألا وهو الدولة. يبدو أنك ترى دولة واحدة فقط والذين دمجوا بها، ولا ترى تعداد الأقوام التي أُقصيت كالثرى، كإقصائها للثراء الذي هو ماضيها ومستقبلها. فتحفظ الجامعة، تحت تخدير الدولة، حين تتخيل المستقبل، الفلسطيني في عداد المشبوهين المريبين. لذا، لا نرى لفظة الفلسطيني في مؤتمركم هذا إلا كموضوع يتداوله أخصّائيّو "الأمن". لا شيء ولا أحد كمثلها، الدولة، كما تبدو لديك. فلا عالٍ أعلى عندك من الدولة، لا قومها هي، ولا غيرهم من الأقوام.
ثمّة أصوات عالية صافية لأجل العدل والحقيقة والإصلاح، نسمعها حول العالم، حتى في حرم جامعة تل-أبيب، ليتمكن جميعنا، الإسرائيليون والفلسطينيون وغيرهم، من استصلاح حياة جديدة، من الأول، عود على بدء، دون هيمنة الصهيونية على البلاد. إلا أن هذه الأصوات لا تلقى إلا استهجانك، رافضا أن تسمعها. بل أكثر من ذلك، أنت تشوّهها. هذا الإنكار، من قبل المؤتمَن على التفكر لا يزداد إلا إذهالا إزاء الوجود المهترئ لدى الشعبين، بل لدى شعوب العالم قاطبة.
فالجامعة التي تشارك في تحطيم شعب آخر وحريّته، لا يمكن لها أن تبقى جامعة. إذ إنها تستلب ثلاث حُرّيات: الأولى هي حرية الشعب الرازح تحت جبروت دولتها، الثانية هي حرية الشعب الذي تستملكه الدولة لها، أما الثالثة فهي حريّة الفكر. هل يمكن لجامعة تنفي حرّيتها، أن تسمى جامعة بحق؟ّ!
في المطاف الأخير، يا أرييل، يحصر الأمر في سؤال حول من تريد أن تخدم حين تقود جامعة ما. يقال إن لا قدرة ولا حول لأحد أن يخدم سيّدين (6)، بل واحدا فقط. من المذهل حقا، أن تبدو مورطا في خدمة ثلاثة في آن: المعرفة، السوق والدولة. فتجد البصيرة المتاحة لفؤادك في مثل هذا الحال مُمزّقة مترهلة تحت وابل الطلبات الملقاة عليك لتعتني بهم معا. فيتعسّر أيّما عُسر على الواحد أن يتبحّر ويتبصّر في الواقع برمّته، كما هو مطلوب في أيّة مكانة قيادية- بما فيها تسيير أيّ منا وجوده على الأرض. فقد يُسحق إدراكك الذي يرزح تحت هذه الثلاثيّة من الخدمات، كما تُسحق الحبوب في حجر الرحى.
أنت ساخط وبحق على حكومة تجدها مُتلفة لحياة صحيّة كريمة، حياة، يحق لكل المخلوقات بلا استثناء التنعّم بها. لكن يبدو أنك لم تسمح لنفسك بأن تمعن بما هو ممكن: أن الحكومة الراهنة ما هي إلا آخر خلطة من تلك السموم الخابلة التي لا تنفك الدولة تنفثها. هذا السم الدولاتي لم ينقطع عن الجريان، مهما تبدلت الحكومات، ولا يهم أي رئيس وزراء جاء وأي ولّى. فما من شيء قد تقوله في الحكومة الراهنة ووزرائها لا يمكن أن يقال وباستحقاق عن دولتك طوال حياتها: هلعة، كذّابة، مراوغة، بلطجية، دمويّة، خدّاعة، فتّانة، فاسدة ومُفسدة، ومدمِّرة لأبدان البشر وأرواحهم. وفي الوقت نفسه، مزاولة للإنكار بلا هوادة، الذي يخدّر ويخبل الحواس الضرورية لتدرك ما تقوم به.
غير أن الجدران والأقنعة التي أُعدت لتجعل السّم مُمَوّها بدأت تتهالك، كما يتهالك معه ذاك القبو السرّي المُحصَّن الذي أُعدّ لحجب ضحايا هذا السم. لا بد أنك مُدرك في مكان ما وفي طريقة ما بأن ذاك القبو قائم وموجود. إسرائيليون كثر يعرفون هذا السم تحت مُسمّى الاحتلال. وهو يكشف لمن تجرّأ على أن يسترق النظر في يقظة وفطنة، فيرى أن من خلف تلك الجدران التي لا تَعرِض إلا أمنا كاذبا وحرّية كذابة، ثمة هاوية. والآن فقد تجلّت الهاوية التي تلحق بك ولربما تلحق بالعالم أجمعين.
لقد تبوّأت القيادة يا أرييل حين قلت مذكرا أن وقت المصائب والشدائد هو أيضا وقت للتعافي والشفاء. لكن هل ستتابع قائدا مقداما، حين تستمر المذابح، على الرغم من الخوف والخطر، نحو الشفاء من صهيونية العصر؟ ما يجدر ترميمه، قبل وخارج المنظومة الصهيونية، هو طريقة ما في العيش للجميع على هذه الأرض التي تحتضن الكل. ولنا القدرة، إن شاء الله، أن نتعلمها مجددا. لقد وجدت الناس في هذا البلد عيشا مشتركا وملاذا على مدار الآلاف من السنين. لأجل أولادنا، ولأجل أحفادنا، ولأجل العالم أجمع. لا يمكننا أن ندع قرنا واحدا من الزمن أن يمحي قرونا سبقته. لا يمكننا أن ندع صهيونيّة العصر ومحوها لهذا التاريخ الراسخ أن تجتثّ العيش المشترك في الأرض ومع الأرض.
يجدر بجامعة حرّة أن تستعيد قدرتها مجدّدا للتعلم كيف تنتمي في هذا المكان، بدل الخوض في "هذه الأرض لنا". حينها قد تدرك الجامعة أن لا حاجة لأحد أو أي شيء أن يقبع في هُويات حادة، ومحزّزة ومتنازعة كما تمليه الدولة الحديثة عبر وعدها الزائف بتوفير"الأمن". إني آمل عليك، إن لم يفُت الأوان، وقبل تهالك الجامعة التام كصرح تعليمي، بأن تدرك أنه ثمة "سيّد" واحد يمكن لك وحرّي بك أن تخدمه في الجامعة من بين الثلاثة، وأنت تعرف أيّهم يكون.
أرجوك، باشر، وقبل فوات الأوان بمحاسبة النفس، التي تسمح لك بأن تدرك بأن لا همّ للدولة يعلو على همّها بحياتها هي، لا حياة مواطنيها، ولا حياة "يهود العالم" التي تزعم أنها تحميهم، ولا القابعين تحت إرهابها في القبو المدفون، والذي صار مكشوفا لكل ذي بصر يهمّه أن يبصر. فلتسأل نفسك قبل فوات الأوان، كمواطن لهذه الدولة، بأي الطرق يصحّ القول بأنك تعاهدت مع مفيستوفيليس فيعدك شيطانا بالمنّ بهتانا.
في حالة الدولة اليهودية، هذا يعني، لربما قبل كل شيء، أنك استبدلت إرثا ضاربا في الخلق، يعتني بالعدالة، أفضل أسس الحكم أبدا، بمؤسسة لا-خلقية (أي الدولة) التي تبيع كل من العدل والخلق على مذبح حياتها هي، مُعتقدة ديمومتها. وبكونها دولة حديثة، فقد دالستك واختالتك إذ زوّدتك بحسّ زائف بالأمان وحسّ ملفّق بالانتماء. هذه الدولة، دولتكم، استهبلتكم حين وعدت بحرّيتكم، بما في ذلك الحريّة من الموت الأليم، على كل ما يُصَبُّ فيها من عنف وعسكرة ونَوَويّات.
في الميزان إذن أكثر من مجرد التعلّم في الجامعة كمؤسسة مهمتها الحيوية هي أن تصون التعلّم وتحفظه. بل في الميزان الآن أيضا وجودنا وانتماؤنا على هذه الأرض وما بعدها. إذ في إفسادهما للتّعَلّم، كل من الدولة والسوق يفسدان الوجود أيضا. لذلك أرجوك أبصر وأنصت، واسأل نفسك ملء فؤادك: ما الذي لا أبصره، ولا أسمعه ولا أشعره حين لا يتعدى مداي ذاك الإله الُهبلي وهو الدولة (5) وصورها الداجلة عن الثراء الموعود.
لا بد أنك تحلّيت بكثير من الصبر ورباطة الجأش إن وصلت في قراءتك إلى هذه الأسطر من هذه الرسالة. وفي خاتمتها، لا يسعني إلا أن أحثّك وأحثّ نفسي لنتذكر أن الله سبحانه وتعالى يؤمرنا بالعدل في كل أحكامنا، العدل في معاملتنا لأنفسنا وفي معاملتنا للآخرين. وإن كنتَ قد نسيتَ هذا فإذ نسيت نذيرا ورد في نبوّة عاموس (٥: ٢٦-٢٧) الذي حذّر من الموبقات المهلِكات التي تحيق بنا حين نتخذ آلهة لنا. أسأل المولى لأن تعمل بنصيحة عاموس لترمّم إدراكك للعدل وهو القائل: "بل حملتُم سُكوتَ مَلِكَكُم والكوكبَ كيوانَ إلهَكُم، وهيَ أصنامٌ صنعتُموها لكُم فسأَسبـيكُم إلى ما وراءِ دِمشقَ، أنا الّذي اسمُهُ الرّبُّ الإلهُ القديرُ" (7).
فالأرض هذه، بأنبيائها وشعرائها، أودعت بيننا درسا مهمّا عن مخادعة النفس، وتهلكتها حين تسبى بإغواءات النفوذ والمال، والدرس هو أن لا ديمومة ها هنا للقلاع الصليبيّة. فما يبقى هو ما ينمو من الأرض وعليها، كالزعتر، والميرميّة والزيتون. وكذلك من يعزّها فيصونها. وبي ثقة أنك لو سمحت لإدراكك بالعدل أن يتعافى، سيمثل أمامك طريق تساهم في شقّه صوب حياة مشتركة سليمة لنا جميعا كتلك التي حظيت بها نباتات الأرض الحيّة على مرّ العصور، بخلاف تلك القلاع المهجورة المندثرة بينها.
(مترجم من الإنجليزية: تاريخ نشر الرسالة بالصيغة الأصلية: ١٩ سبتمبر، ٢٠٢٤)
(1) المقصود هنا هبة الكرامة.
(2) بروفيسور أرييل پورات هو من المناصرين البارزين لحركة الديموقراطية التي تتصدى "للإصلاحات القضائية".
(3) Gleichschaltung هي عبارة تحيل إلى نقد حنة أرندت للمثقفين اللذين امتثلوا لنظام الرايخ الثالث: "ّ أنظر “What Remains Language Remains: A Conversation with Gunter Gaus,” in Essays in Understanding: 1930-1954: Formations, Exile, Totalitarianism, p. 11.
(4) ناشد پروفيسور پورات المحاضرين والمحاضرات للمساعدة في إفشال المقاطعة. في هذا الصعيد أصدرت ڤيرا تصريحا في ٢١ أيار،٢٠٢٤ ترد فيها على قرار مؤتمر قادة جامعات إسبانيا بالانضمام إلى المقاطعة.
(5) عقد پروفيسور پوارت مؤتمرا في ١٩ حزيران، ٢٠٢٤ بعنوان "مستقبل إسرائيل".
(6) الإشارة هنا لإنجيل متى (الإصحاح السادس، ٢٤).
(7) في الأصل من الكتاب الخامس لعاموس-- כו: וּנְשָׂאתֶם, אֵת סִכּוּת מַלְכְּכֶם, וְאֵת, כִּיּוּן צַלְמֵיכֶם--כּוֹכַב, אֱלֹהֵיכֶם, אֲשֶׁר עֲשִׂיתֶם, לָכֶם.
כז: וְהִגְלֵיתִי אֶתְכֶם, מֵהָלְאָה לְדַמָּשֶׂק: אָמַר יְהוָה אֱלֹהֵי-צְבָאוֹת, שְׁמוֹ.